شعار قسم مدونات

مُثقّفونَ.. ولكنْ

مدونات - يقرأ

من المعروفِ أنَّ الثقافةَ العربيّةَ في أوساط الشبابِ ثقافةٌ وهميّةٌ، لا يكادُ واحدهم يعرفُ كتابًا مفيدًا في اللغةِ ولا التاريخِ ولا الفِكر الفلسفي الغربيّ أو الإسلاميّ ولا غيره من مجالات الحياة العلمية أو الشرعية أو أيّ من المجالات الأخرى، وإنّما يقرأُ كتُبًا سطحيّة الأفكارِ لا تُسمنُ طالبَ الثقافةِ الحقّ ولا تغنيهِ من فقرِهِ إلى العلم، فيتشكَّلُ بعدَ هذا وهمُ المعرِفةِ المخزِي والمُذِلِّ لصاحبِهِ، فتراهُ إنْ وقفَ وسطَ شبابٍ عاملٍ يخافُ على نفسهِ، ويلملمُ ثوبَهُ خوفًا من شرارة الواقعِ، ونراهُ حينًا أُخرى (يحتسي) القهوة ليضعَ كلمة (أحتسي) مع المنشور المرفق بصورة كتاب وفنجان قهوة، وأُخرى يترفّعُ عن النقاشِ لأنّه أعلمُ وأذكى مِن أَنْ يناقشَ.
 
حقيقةً، لستُ أُبالِغُ في القول، وكلّ ما ذكرتُهُ هو جزءٌ بسيطٌ يعرفُهُ جميعُ من انتقدَ الثقافةَ العربيّةَ، وهي ليستْ ثقافةً حقيقةً قدر ما هي ثقافة وهميّة، وأذكر مرّةً أنّهُ في جامعتي أقامتْ بعضُ الكتلِ الطلابيةِ معرضًا للكتب، فذهبتُ لأرى الكتبَ وفي داخلي إحساسٌ عميقٌ باليأس؛ حيث أصبحت معظم المعارض للكتب تحمل في أحشائها الروايات والكتب التي سبق أن قلتُ عنها أنّها سطحية، ولكنْ عندما دخلتُ ذاك المعرض بالذات اندهشتُ لروعةِ محتوياته من الكتب وأذكر أنّني اشتريتُ ما أستطيع وأصحابي حمله منه، ثمّ بعد نصف سنةٍ أقامت الكتلة الطلابيّة معرضًا آخر فذهبتُ له ولهانَ ظمآنَ فتفاجأتُ بكمّ الروايات، الروايات لا غير، فسألتُ صاحبَ المعرضِ فقال: "كتب الفكر لا تعجب الطلبة، لذا اتجهنا للروايات".
  

إنّ المثقّف أو مَنْ يطلبُ الثقافةَ متى ما تناول الأمر من بُعدٍ عاطفيٍّ فقدْ فقدَ منزلتَهُ فإنّ العقلَ والنقلَ يُقدّمانِ ويسبقانِ

هذا المثقفُ الذي يقرأُ تلكَ الكتبَ أعطى لنفسِهِ صكَّ الغفرانِ عن أقوالِهِ التي سيقولها؛ فهو مثقَّفٌ متبحّرٌ لا يُدرَكُ، ولا يُسبَقُ -أو هكذا يرى نفسَهُ- فتراهُ يناقِشُ في السياسةِ مرّةً، ومرّةً بل كثيرًا من المرّاتِ في الأمورِ الدينيّةِ العقَديّةِ الخطرةِ، ومرّاتٍ أُخرى نراه يطلعُ علينا بما غنّتْه فيروزُ -وربّما هذه كانتْ أقصى معرفته-.
 
في الأيّامِ الفائتةِ توفّى اللهُ عبدَيْنِ لهُ أحدهما عُرِفَ عالميًّا والآخر عربيًّا، فالأوّل ستيفن هوكينج، والثاني ريم بنا، ولأنّ المثقّفينَ يعشقونَ (اللتّ والعجن) تسارعوا في الترحّمِ عليهم وفي التكلّم عن إنجازاتهم التي لا يعرفونَها -خاصّةً في الأوّل فهم لا يطيقونَ أن يقرؤوا شيئًا مختصًّا أمّا الأغاني فما أسهل الوصول إليها- من خلالِ هذين الحدَثَيْنِ والطّوامّ الكُبرى التي رأيتُها من معاشرِ المثقفين صرتُ كصاحب الجنّتينِ أقلِّبُ كفّتيّ ولكنْ على جهلٍ عميقٍ بلبّ الشريعةِ الإسلاميةِ، ولبّ الولاءِ والبراءِ ليس فقط من مثقفي العرب، بل أغلبهم من مثقفي العرب المسلمينَ، فإِنْ قلنا لهم لا يجوزُ الترحّمُ عليهم وقد نُهِيَ النبيّ عن الاستغفارِ لعمّهِ أبي طالب الذي ساعدَهُ وأيّدَهُ وعلمَ أنّ دعوةَ الرسولِ حقٌّ لأنّهُ ماتَ على ما مات عليهِ أجدادهُ فقال الرسول: (هو في الضحضاح من النار) لم يعجبْهم بل يتهموننا بالتكفيريين، ونحن لم نأتِ بشيءٍ من جيبنا، فالأولُ ليس ملحدًا فقط، بل دعا إلى الإلحاد مستغلًّا مكانته العلمية وإعاقته البدنيّة والذي لا يعرفه الكثيرون عنه أنّ نظرياتِه في الكون لم تصلْ إحداها لدرجة التحقق العلميّ وإنّما بقتْ استنتاجًا واستنباطًا لم يُجرَ عليها الحسّ والمشاهدةُ، أمّا الأخرى فهي مسيحية عُرِفَ عنها دينها، إنّما كانتْ وطنيّة فجعلوها مسلمةً لأنّها غنّتْ لفلسطين وقاومت السرطان.

 
لستُ آتيًا في هذا المقامِ لكي أشرحَ العقيدةَ فلستُ أهلًا لذلكَ، ولكنْ هناكَ أمرٌ مهمٌّ خلفَ عنوانِ مقالتي: هو أنّ المثقّفَ يحشرُ أنفهُ فيما لا يعلمُ كثيرًا فقط لأنّه قرأ عدّةَ كتبٍ في كيفيةِ إطلاقِ قواهُ الخفية وشبيهاتها، وإنّ أوّل ما يجبُ على المثقّف البدء به -في نظري- أن يتفقّه في الدين لو قليلًا، لكن ليس باجتهادِه؛ فالدينُ لا يُؤخَذُ بقراءةِ كتابٍ من دونِ دليلٍ، ومَنْ كانَ الكتابُ شيخَهُ فقد ضلَّ وما اهتدى، بل يجبُ أن يجعلَ له مرجعًا شرعيًّا يثقُ بعلمهِ ومكانته، وقد سمعتُ مؤخّرًا عن (شيخٍ) مصريّ ممّنْ كانوا أهلًا للثقَةِ في عين الشباب كتبَ أنّهُ قرأَ كلَّ حرفٍ عربيّ كُتِبَ قبل القرن الخامس الهجريّ، وقد قرأ آلاف الكتبِ وعنده أربعونَ ألفَ كتابٍ، وما عرفتُ هذا الشيخَ إلّا من انتقاد العلماءِ لهُ واستهزائهم بكلامِهِ الفارغ وبتناقضاته الجليّة فذهبتُ لحسابه على الفيس بوك، وفتّشتُ قليلًا في منشوراتِهِ فكانَ ركيزةَ نفسِهِ، لا يتّكئُ على من هو أوسعُ منهُ علمًا حتى لو احتاج إلى الاطلاع على كتب السابقين -واللهُ أعلمُ-.

  

ريم بنا (مواقع التواصل)
ريم بنا (مواقع التواصل)

 
حقيقةً، إنّ المثقّف أو مَنْ يطلبُ الثقافةَ متى ما تناول الأمر من بُعدٍ عاطفيٍّ فقدْ فقدَ منزلتَهُ فإنّ العقلَ والنقلَ يُقدّمانِ ويسبقانِ، فهوكينغ كان ملحدًا معاقًا وعبقريًّا عالمًا، ولامتلاكه هذه الخصائص نجدهم قد ترحموا عليه وتمنوا الجنّة له، ولو نظرنا قليلًا في أمرهم وجدنا أن نظرتَهم عاطفية بحتة، تخلو من العلم الشرعي حتى لو كان قرأ آلاف الكتبِ منه، فإنّ النصّ الصريحَ الصادقَ يسبقُ أيّ اعتبارٍ، كذلك في ريم التي غنّت ما غنّت لفلسطين وصارعتْ مرضَ السرطان، فقد حاولوا تبرير استحقاقها الجنّة لكونِها قد عانت في حياتِها وهذا منظارٌ عاطفيٌّ أيضًا، ولا يُؤخَذُ من كلامي هذا الشماتةُ بموتِهم، بل هذا أسلوبٌ خسيسٌ؛ فلا شماتة في الموت، ولا بأس أن يذكروا محاسنهم وإنجازاتهم على قدر، ولا يُؤخَذُ أيضًا من كلامي أنّني أقولُ هما في النار، ولكن أقولُ هما كانا كافرينِ وحسبي ذلك.
 
ختامًا، مع يأسي المطلق من الثقافة العربيّة إلّا أنّني أرى بين ثنايا شبابها المتحمّسِ والمؤلِّفِ كتابًا وراءَ كتابٍ والقارئِ لا يدري ما يقرأُ ضياءً ساطعًا يدلّ على محاولاتِهم للبحثِ عن الحقيقةِ، إنّني متأكدٌ تمامًا أنّهم سيصلونَ وحاولتُ أَلّا أكون في مقالي هذا مهاجمًا قدر ما حاولتُ أن أكون فيه (قرصةَ أذن) لعلّنا نصحو من غفوتنا، فواللهِ إنّ أربابَ الثقافةِ العربيّةِ اليوم سقيمونَ بحاجةٍ لوعاءٍ نطهّرُ فيهِ عقولَهم حتى الإسلاميين منهم، بل معظم الإسلاميين صاروا فتنةً للناس إمّا بفتاويهم الساذجة أو باتباعهم للسلطان الجائر، والجيّد منهم أصبح في غياهب السجن أو في ظلام التهميش والتعتيم الإعلاميّ، وهاكم تعليقًا وجدتُهُ على منشورِ إحدى الشيوخ الذائعي الصيت لتعرفوا أنّ الشباب حقًّا تبحثُ عن الحقّ، يقول الشاب: (والله يا شيخ كنت استبشر برؤيه وجهك في أي لقاء أو مكان، بالله عليكم كفى، لا تفتنونا في ديننا، نحن كأفراد على معاصينا لا نستطيع التنفس من الضيق، فما بالكم و قد تعلق في ثياب دروسكم القوم الكثير، بالله عليكم كفى) فإيّاكم أن تستسلموا ولا تستمعوا لمن يحاول إحباطكم ولا تنقادوا للفتن والبوائق في ظلّ هذا الدهر؛ فبكمْ أيّها الشبابُ يكمنُ الأملُ.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.