شعار قسم مدونات

سيكولوجية المواطن السوداني

مدونات - سوادينون

مَن هو الإنسان اللطيف؟
وكيف نحكم على مقدار اللُطف في الآخرين؟
هل الحد الفاصل بين اللطافة والفظاظة قابلاً للقياس؟
هل ثمة مواقف تُحَتِم علينا جميعاً أن نتعامل بلطف إزاءها؟
أم أنها سِمّة شخصية في دواخلنا مهما اختلفت الدوافع والمواقف؟

 

كنت وما زلت مولعاً بدراسة السلوك البشري وكيف يتعامل الانسان في محيطة الخارجي ولا أنفك أرصد انفعالات الناس تجاه المواقف على اختلاف مشاربهم ودوافعهم. وبعد أن قرأت مئات الأوراق ما بين دراسات علم نفس ونظريات فلسفية محاولاً الوصول إلى تفسير قد يكون منطقياً أن أُعزي إليه حالة اللُطف التي يتمتع بها البعض بينما يفتقر إليها البعض الآخر. لم أجد أجدر من المواطن السوداني كي أطرح عليه تلك الأسئلة ليبلغنا عن السِر ويفسّر لنا كيف نجح في أن يتحلى بهذا القدر من اللُطف ولياقة الروح؟

 

تلك الروح الجميلة الشفافة التي تنفذ اليك بمجرد ان تكون موجودة حولك وقبل أن تجعل جسدها يتحدث، الروح التي تتوسم الجمال والبساطة والابداع في كل شيء حولها حتى في الدمار، الروح التي تتغلغل في ماهية الوجود وتكون لطيفة وطيّبة المَعشَر مع كل أحد بغض النظر عن انتمائه وجنسيته ولونه، الروح التي تجاوزت المشكلات بابتسامة والمشاحنات بسلام وأعباء الحياة بتؤدة حتى بلغت حدّ الرفاه النفسي ونفذت إلى الصدق، والصدق وحده مهما رآه البعض ساذجاً أو متلعثما أو أسمر البشرة هو ما نبحث عنه ونسعى إليه حثيثاً.

 

أكاد أجزم أن السودانيين بينهم ميثاق شرف غير مٌعلَن واتفاق غير مكتوب بموجبه يحافظون على سُمعة بلدهم في الخارج بعفويتهم المعهودة ودماثة خلقهم ووافر كرمهم وبالغ لطفهم وقلبهم السليم

ما من أحد إلاّ وله صديق سوداني أو زميل عمل أو ربما جار، من الصعوبة جداً أن تقبض عليه مُتلبساً بالحُزن، الابتسامة مرسومة علي وجهه حتي وان كان يجامل بها الوَجَع، يُصافحك فتشعر بدفء قلبه قبل أن تتحسس يديه، أمّا عن السودانيين في الغربة فهم كالجسد الواحد حدّ التكافل، أذكر منذ سنوات كنت أعمل مهندساً بالسعودية ورُفقائي في العمل سودانيين ما بين مهندس ومشرف ومحاسب عايشتهم عن قرب عشت معهم، لم أجد مثلهم في اللُطف واللين والرِفق وحين يأتيهم زائر جديد من السودان فهو ليس ضيفاً عندهم هو مشمول برعايتهم من حيث الاستضافة وتكاليف المعيشة إلي أن يحصل علي عمل براتب مُجزي مهما استغرق الأمر وحين يشرع أحدهم في الزواج فثمة تدابير أخري يتعاونون عليها ليست بأقل ما يحظى به زائرهم الجديد في رمضان.

 

سأبعث كل يوم برسالة حُب من الآن وحتى موسم الهجرة إلى الشمال مُردّداً مع عمّنا "الطيّب صالح" "أن الحكمة القريبة المنال التي تخرج من أفواه "البسطاء" هي كل أملنا في الخلاص، وأن الشجرة تنمو ببساطة، وجدك عاش ببساطة وسيموت ببساطة.. ذلك هو السر، هل هذا هو السّر يا سودانيين؟

 

أم أن السّر يكمن في المقدرة على التحمل والتي بَدَت جلّية على وجه شاعرتنا العذبة "روضة الحاج" وهي تنشد قائلة: "الله لو تدري اجتهاد تبسمي.. لعجبت مما في الخفاء!! أمّ أنه الملح الذي نثرته وهي تشدو بألحان الصفح والغفران قائلة "ولقد عرفتك إذ عرفتك واحداَ.. ما في الجميع شبيه وجهك صادقاً، ما في القلوب شبيه صدقك شامخاً سَمِحاً وغفّاراً إذا زل الكلام"؟ أمّ أنه ليس في جعبتكم سوي الهوى والصدق والايمان؟!

  undefined

 

أكاد أجزم أن السودانيين بينهم ميثاق شرف غير مٌعلَن واتفاق غير مكتوب بموجبه يحافظون على سُمعة بلدهم في الخارج بعفويتهم المعهودة ودماثة خلقهم ووافر كرمهم وبالغ لطفهم وقلبهم السليم، ربما هم ليسوا على هذه الدرجة من اللُطف فيما بينهم حين يعودون إلى وطنهم، حقيقة لا يمكنني أن أجزم بذلك أو أنفيه، لكن على الأقل نجحوا في تمثيل بلدهم وحسن الدعاية بشكل لائق شَديد عَديل.

 

وكي لا يبدو الأمر محض مديح فارغ غارق في اليوتوبيا، لا يمكننا أن نغفل عن حالة الكسل التي يشتهر بها السودانيين وبالمناسبة هم ليسوا وحدهم في ذلك، لكن ليس ثمة مجال هنا للتفاصيل. ما يسعنا قوله هو أنه حين يتعلق الأمر بالكسل "ذاك الجميل المذموم" فليس أمامنا جميعاً سوى خياران حادّان لا تهاون أو وسط فيهما، إما أن نستحق كسلنا وما يترتب عليه أو نستحق همّتنا وجهدنا وقوتنا وما يترتب عليهم أيضاً، وفي كلا الحالتين يقع ثقل واضح على الروح وسوف تدرك هذا بقطبيه تماماً، لذلك كن نشيطاً متفرداً وحاول ألاّ تُقلّد الأقوياء لأنك إذا قَلَّدتَ القوي فهذا يعني أنك تَقَبّلت ضعفك وأصبحت أسير كسلك.

 

حسناً.. ستبقى الأسئلة في صدر المقال مٌعلّقة إلى أن نتعرف علي السّر وأن يمّن علينا أحد السودانيين بردٍ على سؤال "ما الذي يجعل شخص ما لطيفاً إلى هذا الحدّ؟" يمكننا الآن أن نفتح قوساً ونقول "إذا لم يفتخر السودانيون بعفويتهم ولُطفهم البالغ فمَن يفتخِر؟!" ابن الحقول والأرض الخصبة والعذوبة والمطر، وكم لها في طينته من تخليق وطِباع وأصالة، أعتبر نفسي محظوظاً أنني عايشت بعضهم عن قُرب. سلام من سواكن حيث بوابة كتشنر، إلى جبل مرة حيث خَد القمر مضيئاً سماء دارفور.

 

كونوا بخير.. دُمتم لُطفاء برِفق كما أوصانا النبّي محمد "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانهُ، ولا ينزعُ من شيءٍ إلا شانهُ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.