شعار قسم مدونات

ليس للإنسان إلا ما سعى!

blog-التعليم
شاء الله أن نولد في تلك البقعة من بقاع أرضه الواسعة، وفي هذا التوقيت الصعب من تاريخ الإنسان، وسواء أكان هذا اختبارا أو ابتلاءً؛ فاللهم لا اعتراض لحُكْمك. رضينا يا رب، ولم يرض عنّا جماعة من عبادك، يسمُّون أنفسهم "تحفيزيون"، سلقونا بألسنة حِداد، أذاقونا مُر الحياة في خطاباتهم التي يصفونها بالتحفيزية! يطلُّونَ علينا ليل نهار من نوافذ مختلفة، أجبرنا على ألا نفتحها مرةً أخرى، كي لا يقابلنا أحدهم، ويتساءل مستنكرًا: ما هذا؟ أنت إنسانُ عادي؟! تأكل وتشرب وتنام وتذهب للعمل بشكل عادي؟!

 
تكلم الناس وتمشي في الأسواق بشكل عادي؟!
ماذا قدمت للعالم؟! ماذا قدمت للبشرية؟!
أين بصمتك؟! ماذا قدمت للقضية كذا، أو القضية كذا؟!
أستموت بشكلٍ عادي؟! ولا يتذكرك الناس بإنجاز اتك؟! يا عادي!
للأسف، هذا جزء بسيط ممن نلقاه يوميًا بشكل مبالغ فيه، من أشخاص لا نعلم متى وكيف اقتحموا علينا عالمنا، وأفسدوه!

 

ليس لدي مشكلة على الإطلاق من الأشخاص الذين يريدوننا أفضل وأحسن، وفي تقدم مستمر في حياتنا إلى أن نلقى ربًا كريمًا. مشكلتي هي هذا الخطاب الذي يستحقر جُلَّ أعمالنًا، ويرى أننا لم نفعل شيئًا على الإطلاق، وهذا بحق افتراء وبهتانٌ عظيم!

 

من قال أننا نفعل أشياء عادية؟!
حاول مرة ومرتين وثلاث، حاول ما بقي من عمرك، لكن هوّن عليك ولا تحملها مالا تطيق، وأعلم أن الله سوف يحاسبنا على سعينا لا على عدم تحقيقنا للنتائج

نولد في بلدٍ لا يُحب أبناءه مطلقًا، ندخل مدارسه، ونتعلم بشق الأنفس، وأنفس من جاءوا بنا إلى الحياة تعليمًا يحتل المركز قبل الأخير في قائمة الجودة، ولك أن تتخيل ما نجني في النهاية! جهلٌ بالتأكيد. ندرس صباحًا ونذهب إلى العمل ظهرًا؛ كي نساعد أنفسنا وأهلينا على الاستمرار في الحياة بشكل آدمي، والحياة تمر سريعة وبشكل صعب، لا وقت للّعب، لا وقت للتفكير، لا وقت لاكتشاف المهارات بالأساس! فقط أنت في دوّامة لا تنتهي!

 

أنهينا التعليم والجامعة التي ظننا أنها أسوء ما قد يحدث لنا، وجاء الوقت الذي نُحب فيه الوطن بالإكراه! حان وقت تلبية نداء الوطن، جاء الوقت لأن نرد إليه الجميل! ولا أدري أيُ جميل صُنع لنا؟!… لا، لن أزيد في تلك النقطة بالتحديد، فقد أهدى إلىَ أحدهم ذات مرة نصيحةً، وقال: اعتزل ما يؤذيك، ومن خاف سِلم يابو عمو. ما واجهناه بفترة التجنيد، وما تلا ذلك من بحثٍ عن عمل، وأشياء أخرى لهو أمرٌ صعبٌ حقًا، يحتاج لبطل من أبطال هوليوود الخارقين لعبوره وتحقيقه! حلمنًا بحياةٍ أفضل، وأردنا تغيير واقعنا الغميق السيء؛ فنزلنا إلى الشارع نأمل الحياة ونطالب بها، فاستجابوا لنا بفوَّهات البنادق والدبابات، فأسقطونا قتلى، ومن لاذ بالفرار، وجد نفسه بين جدران سجونهم يُعذب فيها حتى حين!

 

لقد حاولنا كثيرًا أن نعيش ونفعل الأشياء التي ظنناها -عادية-، والتي بالتجربة وجدناها أشياء صعبة مستحيلة.. أن تجد تعليمًا جيدًا لأبنائك، أن تُعامل بشكل محترم داخل أروقة المكاتب والهيئات، أن تجد عملاً يناسب ما درسته وما تعلمته، أن يعاملك أحدهم بشكل جيّد لأنك إنسان لا لأنك أحد هؤلاء المُهمين! أن تذهب وتعود، وتروح وتجيء دون أن يلحقك أذى، أو تصاب بمكروه، أن تتزوج، لا أن يصير الزواج ضربًا من ضروب الخيال. أن تقول رأيك بحرية، ولا تخاف ما قلت. كل تلك الأشياء من المفترض أن تكون سهلة وبسيطة، لكنها في أوطاننا أشياء شاقة وصعبة الحدوث! لا تظنوا أننا عاديون، نحن محاربون، نحارب بمعارك يومية ربما لا تعلمون عنها شيئًا؛ فكفوا ألسنتكم يرحمكم الله.

 

إن هؤلاء أصابوا الكثيرين بالإحباط وربما بالاكتئاب، طوال الوقت وهم يحملونك ما لا تطيق؛ يريدون أن تكون صلاح الدين أو الظاهر بيبرس، أن تكون أينشتين أو أبقراط، ان تكون ستيف جوبز، أو محمد علي، أن تكون تنينًا مجنحًا، عبقري هذا الزمان وما بعد هذا الزمان، أن تكون في أخلاقك كأحد المرسلين وفي عِلمك كأحد الأفذاذ، يريدونك مثل قائد عظيم تحل على يديه مشاكل الأمة، والأمم الأخرى. يريدونك مثل ومثل..، ونسوا الظرف الجغرافي الذي وُلدنا فيه، والذي يقتل الأحلام والأفكار في مهدها.. نسوا أن الله خلق بني آدم على طبقات وقدرات شتّى، نسوا أنك شيء مختلف، لست تشبه أحدًا ولا أحد يشبهك. أوجدك الله مخلوقًا ربما لا تمتلك صفات القادة أو العباقرة.. فلا تحزن ولا تبتئس بما كانوا يقولون.
   

أن تكون عاديًا وعظيمًا.. ولكن من قال أنها أشياء عادية؟!
لا يهم إذا لم تتحدث عنك وسائل الإعلام، أو لم تكن أحد هؤلاء المشاهير، أو حتى لا يتذكرك أحدهم بالإنجازات العظيمة، وأعلم أن هذا ليس قياسًا وإنما القياس هو حب الله لك

أن تساعد أحدهم وتعينه على مشكلاته دون أن يطلب منك ذلك، أن تضحك في وجه من تعرف ومن لا تعرف، ألا تكن للظالمين عونًا، أن تكون للمظلومين سندًا ونصيرًا، أن تسير بين الناس جابرًا للخواطر، أن تعف نفسك عن الحرام، أن تخفض جناحك للضعفاء، أن يتذكرك أحدهم ويبتسم لأجلك، ألّا تخض في أعراض الأخرين، أن تمنع أذاك عن الناس، أن يسلم الناس من لسانك ويدك وجوارحك، أن تصل الأرحام، وأن يرى فيك أحدهم شخصًا يمكن اللجوء إليه، والاستئناس به؛ تلك من أعظم الأشياء التي يحث عليها ويقدرها شرع الله، والتي تساعد المجتمع على أن يكون أفضل.. ومن يفعلها فهو شخصٌ عظيم لو كانوا يعلمون.

 

لست أدعو إلى تثبيط الهمم، أو قتل الطموح، أو الخضوع والخنوع، والارتكان إلى إحدى زوايا هذا العالم والانكماش فيها، دون محاولة في إحداث الإعمار الذي أمرنا به الله.. لكن "لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا"، حاول مرة ومرتين وثلاث، حاول ما بقي من عمرك، لكن هوّن عليك ولا تحملها مالا تطيق، وأعلم أن الله سوف يحاسبنا على سعينا لا على عدم تحقيقنا للنتائج،"وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى".

  

وأعلم أن الله يعلم عن الذين حاولوا، والذين جاهدوا في سبيله.. جاء أحد الرسل إلى عمر بن الخطاب من جبهات القتال، فسأله أمير المؤمنين، وقال له: من قُتل من المسلمين؟! فأجابه: فلانٌ وفلانٌ وفلان، وآخرين لم نعلمهم.  فقال له عُمر: لكن الله يعلمهم، ثم تلا قول الله تعالى "لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ"
لا يهم إذا لم تتحدث عنك وسائل الإعلام، أو لم تكن أحد هؤلاء المشاهير، أو حتى لا يتذكرك أحدهم بالإنجازات العظيمة، وأعلم أن هذا ليس قياسًا وإنما القياس هو حب الله لك، وأعلم أن الله حرَّم النار على كل هيّن ،ليّن، سهل، قريب من الناس. وتذكر قول الرسول الكريم حين قال (إن من أحبكم إليَّ وأقربكم من مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا). يا صديقي إن الدين يقدرك، ويقدر ما تصنع فلا تجزع لقولهم، ولا تحقرن من المعروف شيئًا ولو أن تلقى أخاك بوجه طلق.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.