شعار قسم مدونات

البشريَّةُ بين البهيميَّةِ والارتقاءِ

blogs مجتمع

في هذه التدوينة أتناول أثرًا من آثارِ غيابِ اللهِ -افتراضًا- في حياةِ الناسِ، وهو القيمُ الأخلاقيّةُ المطلَقةُ، علمًا أنّ هذه القيمَ هي جزءٌ بسيطٌ من منظومةٍ متكاملةٍ تدلّ على وجود اللهِ، فهناك القيمُ العلميَّةُ الضروريّةُ والتي عليها تنبني معارفُ الإنسانِ، وهناك الفطرةُ وغيرها من الأدلّةِ التي أُشبعتْ بحثًا وتفسيرًا لمَنْ هو أعلمُ منّي. سأل أحدُ الأصدقاءِ هذا السؤالَ: "بعيداً عن الجانب الديني" ما الذي يدفعك لتعيش وتكمل حياتك وتسعى إلى النجاح؟ لماذا تعيش!؟".

قبل أنْ أبدأ بالإجابةِ أودُّ أنْ أُنوِّهَ أنَّ بعضَ الأُمورِ في الدِّينِ لا تحتملُ غيرَ المتخصِّصينَ ولا الرأي فيها، فقد قال الشيخُ مسعود كوني: قال تعالى: "فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ"، ولم يقل: كما ترى!، فإنَّ كثيرًا من أُمورِ الدين ليستْ بالرأيِ الذي يُؤخَذُ، بل بالواجِبِ الذي نُؤمَرُ بهِ؛ فالدين ليس مَعرَضًا لوجهاتِ النظرِ لا سيّما في الأمورِ الخطِرَةِ، أمّا عن سببِ إجابتي أنا من دونِ الناسِ ولِمَ بائي تُجَرُّ وأقولُ عن باء غيري أنَّها لا تُجَرُّ فهذا جوابُهُ أنَّ مقاميَ هُنا نقْلُ الجوابِ وترتيبُه وليس الإجابة حسب رأيٍ شخصيٍّ.

السؤالُ بدأ بطريقةٍ فظيعةٍ بهذه الجملةِ (بعيدًا عن الجانبِ الدينيّ) وهذا يدلُّ على استخفافٍ بدورِ الدِّينِ وإهمالِه -وأدري أنَّ نيَّةَ السائلِ طيِّبَةٌ- ولكنْ أَنْ يتمَّ إهمالُ ركيزةِ وجودِ الإنسانِ فما الذي تبقَّى له؟ وأَنْ يتمَّ إهمالُ حلِّ مشكلة الوجودِ -الإسلام- وحلّ معضلةِ المادَّةِ والروحِ والتناحرِ الذي بينهما فما الذي تبقَّى لحياةِ الإنسانِ؟

لولا وجودُ آثارِ الإيمانِ باللهِ طوال التاريخِ هل عاشَ الإنسانُ الحياةَ التي هو فيها الآن؟، أم هل تمدَّدتِ البشريَّةُ بغيرِ التمدُّدِ الذي يشبهُ شريعةَ الغابِ؟

وقد يقول قائلٌ: أتقصِدُ أنَّهُ بهيمةٌ؟! ما الذي تقولُه!؟ أُجيبُ وبكلِّ هدوءٍ: نعمْ، هو كذلك. أمَّا لماذا ذلك، فما الذي سيتميَّزُ به الإنسانِ عن الدَّوابِّ غير أنَّه سيعيشُ ويموتُ -حسب معتقده الإلحادي وإقصاء الدين والخالق من الحياةِ-؟ بل ما قيمةُ القِيَمِ الأخلاقيّةِ -التي يظنّ الملحدون أنّهم هم مَنْ أطلقوها بأنفسِهم!- في حياتنا الواقعيَّةِ؟ لماذا لا يقرؤونَ كتابَ (الأمير) لـ (ميكافللي) ويُطبِّقونَ الذي فيهِ؟ ما الذي يمنعُهمْ من هذا أصلًا؟؛ فلا وجودَ لربٍّ -حسب معتقدِهمْ- ولا وجود لعذابٍ، ولا وجودَ ليومٍ آخَرٍ ولا حسابٍ. بعد هذا يأتي آخَرٌ ويقول: أوه! لقد أوقعتُ بكَ وأمسكتُكَ من عنقِكَ، أنتَ قد أخطأتَ؛ فأنا أرى الكثيرَ من المُلحدينَ لديهمْ أخلاقٌ أكثر منكم أيُّها المُسلمونَ، وأنا رأيتُ، وأنا رأيتُ، إلى آخره…

هُنا يكونُ الجوابُ حينَها: إنَّ المُسلمَ المتجرِّد من الأخلاقِ هو شخصٌ يخالِفُ مُعتقَدَهُ؛ إمّا لأنَّه أخذَ الدينَ بالوراثةِ، أو لم يفهمْهُ، أو أنّهُ أسلمَ لمصلحةٍ وحسابهُ على اللهِ، وكما أسلفتُ فهو يخالِفُ مُعتَقَدَهُ؛ فهو يُخالِفُ قولَهُ تعالى "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ" والتي تحت ظلِّ هذه الآية تندرجُ حياةُ المسلمِ الحقِّ وقناعتُهُ ومعتقدُهُ، أمَّا المسلمُ صاحبُ الخلُقِ ومُوفِي الميراثِ وحافظُ الجوارِ فهو يُطبِّقُ معتقدَهُ والجبلة التي جُبِلَ عليها، وأمَّا المُلحِدُ طيِّبُ الخلُقِ فهو مخَالِفٌ تمامًا تمامًا لمُعتقَدِه، فمن الذي قرَّرَ القِيَمَ الأخلاقيَّةَ المُطلَقةَ للإنسانِ؟ ومنِ الذي قرَّرَ أنَّ العدلَ خيرٌ والظلمَ شَرٌّ؟ إنْ كانَ الإنسانُ الذي فعل ذلك، فبأيِّ مرحلةٍ داروينيَّةٍ فعلَها؟ -قرأتُ النظريَّةَ ولم أستطعْ أنْ أُكملَها لشعوري بالاشمئزازِ الرهيبِ منها بتعاملها مع كيان الإنسان علمًا أنّها صارتْ شبهَ حقيقةٍ في الغربِ- فكيف نشأ المسرحُ والفنُّ والشعرُ؟ ولماذا لنا -نحن البشر- القيمُ الأخلاقيَّةُ لا مثل شريعة الغابِ؟ ولماذا نحن نمتلكُ الشعر والرسمَ والحيواناتُ لا تمتلكُهَا؟ لماذا الحيواناتُ دقيقةٌ جدًا في عملِها، وكثيرٌ منَّا غير دقيقٍ؟

رُبَّما يرجعُ فيقول: أين معزوفةُ بيتهوفن؟ أين نظرياتُ آينشتاين؟ أين فلسفة أرسطو؟ هل (بمجرَّدِ أنْ ليس للإنسانِ دينٌ) -وهذه جملةٌ خطرةٌ- فهو بلا شغفٍ ولا حياةٍ ولا أهدافٍ، وهو بهيمةٌ أيضًا!؟ ما أراكَ تتحدَّثُ إلَّا بسببِ العُقَدِ النفسيةِ والسوداويةِ المُفرطَةِ التي تعرَّضتَ لها سابقًا!

(بعيدًا عن الجانب الديني) فالانتحارُ أفضلُ لي، لأنّ حياتَنا ستكونُ خبطَ عشواء، طعامٌ ونومٌ فموتٌ
(بعيدًا عن الجانب الديني) فالانتحارُ أفضلُ لي، لأنّ حياتَنا ستكونُ خبطَ عشواء، طعامٌ ونومٌ فموتٌ

هُنا جوابٌ يُطابِقُ ما سبَقَهُ: لولا وجودُ آثارِ الإيمانِ باللهِ طوال التاريخِ هل عاشَ الإنسانُ الحياةَ التي هو فيها الآن؟، أم هل تمدَّدتِ البشريَّةُ بغيرِ التمدُّدِ الذي يشبهُ شريعةَ الغابِ؟ لولا وجودُ المؤمنينَ بوجودِ اللهِ لسعى كلٌّ خلف شهوتِهِ، خلفَ سيَّارةٍ أكبر، ومالٍ أوفر، وحظٍّ من النساءِ أجزل، لانتشرَ القتلُ والدمارُ والتشريدُ، لقضى الإنسانُ عمرَه كما تقضيهِ أُمُّ صغارِ الحيواناتِ تخافُ على أولادِها من الأكلِ، لما كانَ لنا شغفٌ أصلًا فمن أينَ سيأتي الشغفُ -والذي مصدرُه الروحُ لا المادّة- ونحن في صراعِ مَنْ سيبقى؟ رُبَّما يقول: ولكنْ يبدو أنَّكَ أعمى ألا ترى الحروبَ التي ارتُكبتْ لأجلِ الربِّ وباسمِهِ؟ ألا ترى الفتوحاتِ الإسلامية والحملاتِ الصليبيَّةَ ومجازرَ البوسنة؟ -طبعًا لن يرى مجازر الصين وروسيا الشيوعية- ماذا لو سعى كلُّ إنسانٍ لغايتِه ومشى في سلامٍ؟ أينَ الحبُّ والمودَّةُ؟

وأُجيبُ: لستُ أعمًى، ولكنّ هذه الحروبَ لا شيء أبدًا ستكونُ أمام الحروبِ التي ستنتُجُ بسببِ حربِ (الغاياتِ)، رُبَّما غايتُكَ أنْ تكونَ رسَّامًا ماهرًا، ولكنْ ماذا ستفعلُ مع مَن غايتُه أنْ يجمعَ مالًا؟ لا تنسَ أنَّكَ "بعيدًا عن الجانب الديني" وهذا يعني (الغايةُ تبرِّرُ والوسيلةَ) ولو كان القتلُ هو الوسيلةُ، وهنا أرجع للنقطة التي بدأتُ وتعمّدتُ أنْ أبدأ بها: (القيم الأخلاقية المُطلَقة).

 

ختامًا، أنا لم أُجِبْ عن السؤال الأولِ (بعيدًا عن الجانب الديني، ما الذي يدفعك لتعيش وتكمل حياتك وتسعى إلى النجاح؟، (لماذا تعيش؟!) هنا جوابي وبما أنّه (بعيدًا عن الجانب الديني) فالانتحارُ أفضلُ لي، لأنّ حياتَنا ستكونُ خبطَ عشواء، طعامٌ ونومٌ فموتٌ، وجملةُ (بعيدًا عن الدين) لا تُؤخَذُ بشكلٍ شخصيٍّ فهذا تضييقٌ للأفُقِ ولكن النظرة الصحيحة أَنْ تُرَى حينَ تُطبَّقُ بشكلٍ جماعيٍّ على كلّ البشر، "قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.