شعار قسم مدونات

أمك من ربتك لا من أنجبتك!

blogs القدس

أربعة وثلاثون عاما تغلغلت جذوري في أعماقها وارتوت عروقه بالمياه الدافقة من بين صخورها وانحنى التاريخ على جبهتي يطبع قبلته السرمدية لكأنه كتب بالخط العريض ذكرى أبدية تظل تدق أجراس الذاكرة كلما اشتد النسيان وأشهر شيطانه في وجه الأصالة. أربعة عقود ونيف أحمل ذاتي الموروثة من جبال كنعان التي أنجبت قضيتي المهاجرة في فيافي. الأرض وأصقاعها وكانت المصادفة العظيمة التي خطت ملامح حياتي كأي لاجئ فلسطيني. فلسطين يا أمي البعيدة التي أنجبتني بموروث كنعاني وألقت بجذري الصغير على تلافيف المنافي وأعطتني اسمي الأول واسم أبي وشجرة العائلة الممتدة حتى بدايات الكتابة والتأريخ ولدت على قارعة الخيمة المتكأة كجدتي على سنابل القمح تلف منديلها بحزن على وجهها وتبكي لوعة النكبة.

قبل أعوام لم أكن أعرف تماما تعريف الأم وماهية الأمومة وتفاصيل هذه الكلمة البحر ولكنني اليوم وبعد أربعة أعوام على الرحيل أستطيع الكتابة بحرقة وبكل ما أوتيت من حنين ولهفة أي نوع من السيدات تلك الأم الأرض التي منحتني وقوفي كسنبلة قمح جنوبية تصارع الريح بصمت لعقود تحمل حباتها وبنيها بين كفيها تتلقى حبال المطر المجنون وتستعد كامرأة عاشقة بكامل حميميتها وخصوبتها لتعانق شمس آذار وهي تدرك أنها لن تكون مجرد شمسا ربيعية فحسب لكنها شمسا تحمل براعم الحياة وتراتيل الحياة وطباشير ستكتب للزمان مولدا يليق بتاريخ الياسمين.

أمي فلسطين سيدة أثقلت حملها وألقتنا بعد التعب وغفلة التاريخ في حضن شقيقتها التوأم وأوصتها بأن تبقينا على عهد الثورة والأمل وعلى قيد الياسمين

لا أنكر جذوري الضاربة في عمق المأساة والانتظار والتي بانت كخريطة طريق على تجاعيد من شهدوا إلياذة النكبة والتي رأيتها واضحة الهم وثاقبة الحزن وعميقة الأنين في وجه أبي ولا أتجرأ أن أعلن براءتي من الأم التي أنجبتني والتي أعطت لشراييني نبض يبوس ولجسدي صلابة الأسوار المحيطة بعكا ولجبيني شموخ الجرمق وهو يلقي بظلاله كأمير على سفوح الجليل المستلقية كسيدة على تراتيل المسيح في الناصرة وطبريا.

أمي فلسطين سيدة أثقلت حملها وألقتنا بعد التعب وغفلة التاريخ في حضن شقيقتها التوأم وأوصتها بأن تبقينا على عهد الثورة والأمل وعلى قيد الياسمين، بكل ما أوتيت سورية من شبق ودلال كشرفات منازلها القديمة في حواري دمشق رفعت أيديها وتلقفتنا كأرض تنتظر هطولا موسميا في نهاية تشرين. أدرك وأنا اليوم على رصيف الثلج بعيدا في شوارع القارة العجوز وعلى بعد آلاف الأميال ومئات الأعمار وملايين الحكايات التي دفنها البحر في قاعه أن سورية لم تكن مجرد سيدة أو خالة التقطت أبناء النكبة فحسب بل كانت آلهة في العطاء مثل عشتاروت، فلسطين أنجبتني وسورية أرضعتني من رحيق ياسمينها حليبا صافيا، فلسطين سمتني وسوريا الهبت ملامح الحبر في اسمي، فلسطين علمتني العودة وسوريا ألهبت ذاكرتي.

 

فلسطين التي حملت نسلي وسورية حملتني وهنا على وهن وأرضعتني وأطالت فطامي كي يتشبث أكسير الحنين في وجداني ثم أرخت ستائرها على مقلتي في ليالي البرد وأطلقت نجومها تضيء سماء صيفي كسهرة حصاد جنوبية فكيف لي أن أنسى ترابها الذي كحل طفولتي وماؤها الذي صقل طيني ثم قدمتني لنار عشقها المتصابية وأحرقتني على مهل كارتشاف نساءها لقهوة الصباح على أثير الموسيقى الفيروزية.

 

وقدمتني للريح بعد أن منحتني الوقوف، ومنحتني هبة للشمس بعد أن كست جسدي بسمرة ترابها، وأرختني على أرصفة شوارعها أستقبل المطر مثل أشكور الإله الدمشقي الذي يحمل شوكة البرق كرمزا لسطوته وقوته وتفوقه على بقية العواصف الطبيعية. ثم ألقت بي من سماء قاسيونها بعد أن أعطتني درسا في الصعود والهبوط وعلى مقاعدها قرأت تاريخ أمية ونزار.

في عيدك صبرا أمي فإن الياسمين سيزهر في نوافذك مثل آذار حين أتى قبل سبع دورات كونية وحمل مع شمسه ربيع الثورة
في عيدك صبرا أمي فإن الياسمين سيزهر في نوافذك مثل آذار حين أتى قبل سبع دورات كونية وحمل مع شمسه ربيع الثورة
 

وكتبت للحب أولى خواطري وامتطيت الحبر في مقاهيها القديمة ورحت أنسج من بريق الشمس وتصاوير الحميمية الهاربة من فناء بيوتها خيالا للقصيدة وفستان للهوى العابر مثل رائحة عطر تحملني لسابع سماء وتقذفني من جديد فأرتطم بالتاريخ والياسمين فأشتعل ثانية. رأيت القدس في أزقتها وأرسلت رسالتي مع نوارسها للشاطئ الممتد إلى حيفا وعكا ويافا، ومن على سفوح قاسيون كتبت وصيتي للجرمق الصفدي أبلغه سلام الناصري الذي لا يموت رأيت وجه الله حين تؤدي مساجدها دورة صوفية تدور بي الأرض دورة كونية وتلقي التحية على الأولين والتابعين واللاحقين ومن صلوا اليوم على بساط الحرية فتجمع في مآذنها تاريخ القيامة والغسق وأدعية الثكالى وأنين الليل وألاء النهار.

كلما ذبلت شفاهي وأوشكت على الرحيل سقتني دمشق من نهديها وأعادتني سيرتي الأولى حيث بدأت صغيرا أذبل عيني دلالا أمام وجهها وأمرر رأسي على حضنها كقطة ناعمة خائفة فتلويني وتأخذني من جديد بين ظفائرها وتسدل على وجنتي شالها الذهبي وتغني لي "مال الشام ويا الله ياغالي" فكيف لي أن أنسى وجدتي قالت يوما قبل رحيلها: "بني أمك من ربتك لا من أنجبت"، في عيدك صبرا أمي فإن الياسمين سيزهر في نوافذك مثل آذار حين أتى قبل سبع دورات كونية وحمل مع شمسه ربيع الثورة وأطلق ظفائره تغني للحب والحياة والحرية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.