شعار قسم مدونات

عن مأساة الاختيار.. والكائن الرمادي في المنطقة الرمادية

blogs المنطقة الرمادية

في هذه الحياة؛ كيف علينا أن نختار؟ في كل يوم يقف الإنسان أمام اختيارات صغيرة؛ تأخذه بالتراكم إلى اختيارات أكبر وأهم، والطريقة التي تسير بها اختياراتك الصغيرة مثل مكان تناول الطعام والملابس التي سترتديها؛ هي ما سيحدد طريقة اختياراتك المصيرية. هل تأكل ما تريده وترتدي ما يفضله الآخرون؟ أم ستأكل وترتدي ما تفضله أنت؛ بغض النظر عن آراء من حولك؟

 

لا تستجعل في الرد وتؤكد أنك تختار ما تريده؛ لأن الأمر به العديد من الحيل النفسية؛ فمثلا إذا كانت رغبتك في الحياة هي أن يحبك الآخرون؛ فبالتالي ستكون كل اختياراتك في الحياة يحددها هدف واحد فقط هو إرضاء الآخرين، وصدقني وقتها لن تختار ما تحبه، بل إنك قد تكون نسيت ما تحبه وما تكرهه من الأساس بسبب أعوام طويلة من اختيارات هدفها الوحيد هو كسب رضا من حولك.

 

أسرتك تريد أن تراك أفضل فرد في العائلة بغض النظر عن الضغط النفسي الذي ستقع أسيرا له، وأصدقاؤك يريدون منك الود والاهتمام بالقدر الذي يواكب احتياجاتهم بغض النظر عن ما تمر به

علمتني أمي أني إذا أردت شيئا فعلي أن أضحي بشيء في المقابل، إذا ابتاعت لي تلك الحقيبة المدرسية ذات الساعة في مقدمتها، فلن تبتاع لي ذلك الفستان الأخضر الذي كنت أمر من أمامه يوميا وأتخيل نفسي به وأنا أدور حوله وهو يدور حولي، كنت أغمض عيني وأتخيل أن الفستان سيعطيني قدرة على الطيران، ولكني اخترت الحقيبة ذات الساعة حتى أبهر اصدقائي في المدرسة، وأجعلهم يحبونني لأني سأتركهم يحملونها ويلعبون بها، ولكن بعد أسبوع انكسرت الساعة، وبدأت ألحظ حجم الحقيبة الضيق من الداخل، ندمت لأني ضحيت بالفستان وتمنيت أن أمي لم تخيرني بين الاثنين حتى لا أختبر شعور الندم هذا وأصب غضبي عليها، ولم يخطر على بالي قط وقتها أن أتمنى ألا يتعين علي أن أضحي بشيء من أجل شيء، فما الذي يمنع أن أحصل على الفستان والحقيبة! خاصة أن حال أهلي كان ميسورا.

 

ولكن أمي علمتني درسا في التضحية وفي الاختيار، ونما خوفي من اتخاذ القرارات المصيرية من وقتها، كنت أخشى الندم وتلك النغزة التي تطعن القلب، تركت أموري للقدر حتى إذا ساءت الأمور أشكو منها إليه وأنا راضية، و"يا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم". لم أسأل نفسي وقتها أيضا لماذا يجب أصلا أن أكون واحدا من الاثنين..لماذا لا أنام وخلاص!!

 

لماذا يجب دائما أن نختار، ولماذا تكون الاختيارات بالضرورة صعبة؛ لتجد قلبك وروحك ممزقين بين اتجاهين كل منهما في مجرة أخرى، ولماذا التضحية أيضا، أم أن التضحية مجرد خدعة! علمها لنا أهلنا ليبرروا قلة الحيلة، ليس هناك ما نريده ولا نستطيع أن نصل إليه، ولكن لن يحب أحد أن يراك تحقق أحلامك، لأن هذا سيدفعه للحركة من ثباته الطويل ليركض وراء أحلامه أيضا، لأن وصولك لأحلامك خاصة وإن كانت صعبة من وجهة نظر من حولك يورث سكون اليأس بقلوبهم، وتغلي بأمعائهم الرغبة في الحياة ومطاردة الحلم فيطفئونها بالولولة على حظهم.

 

كثيرا ما سألت نفسي عن طبيعة "الحلول الوسط" وهل يصح أن نسميه حلا إن كان في منطقة وسطى، حلا باللون الرمادي الباهت الخالي من النقاء، والذي لا يجرؤ أيضا على أن يتلوّن بالسواد الحالك، لماذا لا أرى الرضا والقناعة في تلك الحلول المائعة التي ليس لها شكل ثابت سواء كان جيد أم سيئا، المهم أن يكون لها كيان واضح، إنما المناطق الرمادية تشبه قدومك إلى الحياة ومن ثم تقرر ألا تعيشها كما يجب أن تكون.

 

كل ليلة ستقضيها في المنطقة الرمادية ستصبغ روحك وقلبك بنفس اللون، ومع الوقت ستخسر نفسك قطعة وراء الأخرى، حتى تتحول إلى كيان رمادي يليق بتلك المنطقة المائعة
كل ليلة ستقضيها في المنطقة الرمادية ستصبغ روحك وقلبك بنفس اللون، ومع الوقت ستخسر نفسك قطعة وراء الأخرى، حتى تتحول إلى كيان رمادي يليق بتلك المنطقة المائعة
 

انا أعلم أن الأمر ليس سهلا، وأن كل شخص من حولك يحاول بكل قوته أن يضعك في "برواز" صنعه بنفسه لك، ويريدك في المقابل أن تحقق هذا الحلم، أسرتك تريد أن تراك أفضل فرد في العائلة بغض النظر عن الضغط النفسي الذي ستقع أسيرا له حتى تحقق لهم أحلامهم الخاصة، وأصدقاؤك يريدون منك الود والاهتمام بالقدر الذي يواكب احتياجاتهم بغض النظر عن ما تمر به وما تقدر حقا على فعله، ومعلموك يرون أنفسهم فيك ويطمحون أن تتفوق عليهم وإلا لن يرضوا عنك، وكل شخص تقابله يوميا يطالبك بالاختيار بين ما تريده وبين ما يريده هو؛ فماذا ستختار؟

 

إذا تأكدت أنك تريد شيئا ما، فهل تأكدت أنك اتخذت كل الطرق المتاحة للوصول اليه؟، هل استنفذت كل الفرص الممكنة؟ يجب أن تكون إجابتك بنعم وإلا لا أنصحك أبدا بالمنطقة الرمادية، فبعد اختيارها ستهجم عليك رغبتك المُلحة في اكتشاف الاحتمالات التي تركتها وراءك تطارد أحلامك، وكل ليلة ستقضيها في المنطقة الرمادية ستصبغ روحك وقلبك بنفس اللون، ومع الوقت ستخسر نفسك قطعة وراء الأخرى، حتى تتحول إلى كيان رمادي يليق بتلك المنطقة المائعة، وتكتشف أنك لم تعد تحب بقوة، ولا تعادي باهتمام، لن تشتهي بصدق، ولن ترفض بحزم؛ ستكون مجرد كائن رمادي يعيش في منطقة رمادية لا هي حزينة ولا سعيدة؛ هي فقط مملة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.