شعار قسم مدونات

كمطلع البدرِ أحببتك

blogs - woman
التي قالت:"في ديسمبر تنتهي الأحلام"، لم تكن على حق البتّة، فأغلب أحلامنا لا تموت في الخريف بل تُولد، تولدُ جميلة كسماء كانون، كقمر تشرين، كذاك المطر الدافئ حين يتسلق أوردة السماء، في ديسمبر تُزهر أشياؤنا الجميلات كما تُزهر معها الكثير من الأماني والآمال، تتفتحُ به أزهاره لتهيئنا لفهم أسرار ما سبقها من خيبات وما سيلحقها ذات يوم من أيام نيسان، من انكسارات تأبى أن تدخلَ سراديب النسيان.
  
هي كذلك بَنت الوهمَ الجميل ذات ديسمبر ليتعرّى كلّيا ذات صباح من صباحات نيسان، ويَترُكَ لها قُفّة من الذّكريات، في نيسان يُزهر القصيد كما يزهرُ الزّهر والرّجاء في غد مُحمّل بما نبتغيه رُفقة من نبتغيه، لكن فيه أدركت أن الرّجاء لا أملَ فيه، فيه ماتت قصيدتُها الأجمل إطلاقا، ومعها ماتت كل حروفَها الجميلة التي كانت على الدّوام صادقة بِحق في وصْفِه. مازالت تتذكرُ كل التفاصيل المتعلقة به، ببذخ الانبهار الأول وانخطاف الومضة الأولى؛ حتّى تلك التي لا يعيرها اهتماما، ما زالت تستحضرُ في قرارة مُهجتها عيونه الغائبة إلاّ من ذاكرتها، ومن حروفها المتجرّدة من كل شيء إلاّ من نبضه.

بصدق الفجر أحبّته، عاهده قلبها على الوفاء له حتى قبل أن يُدرك حقيقة مشاعرها نحوه، وليته أدرَكَ مدى صدقها وإيمانها القويّ به، أوصدت كل أبواب ونوافذ الحب في وجه قلبها مؤمنة أنّ حبّه وحده بوابة للرُّوح، كانت تتحرى ألا يدخل قلبها أحد غيره، ذلك أنّها تعتقد يقينا لا ريب فيه، أن لا أحدَ يستحق أن يعرفها عداه.

   
لم تكن يوما تريد زوجا يملك مصباح علاء الدين ليحقق أحلامها الوردية، فامرأة واثقة مثلها بمقدورها أن تحقق ما تريد، وتبلغ كل ما تريد، لطالما آمنت بأن أحلامها مسؤوليتها، وأنها وحدها كفيلة بأن تحدث في غمرة وجودها ضجة، كلُّ ما أرادته هو رفيقَ درب فحسب، يكون لها سندا في الحياة، وشريكا داعما في كل الإنجازات، يقف جنبها بكل حب ووفاء لا ينهكهما طموحها الكبير. كان هو النصف الحامل لكل تلك الصفات، نصف آخر لا يشبهها البتة، يجادلها فتجادله، يشاكسها وتشاكسه، يتفقان قليلا، ويختلفان كثيرا، رجل بطموح كما الجبال، شغوف بالحياة، يقرأ، يحلم، يجابه الدنيا بعصامية منقطعة النظير، والأهم من كل ذلك، أنه يرى هذا العالم من نوافذ متعددة.
  

المُحب يحب دوما أن يترك للمحبوب شيئا منه، سواء كان حروفا طيبة الذكرى جمعتهما، أو دعوة من القلب، أو كلمة طيبة، أو نكتة عبيطة ضحكا عليها يوما، أو حتى اسما قد لا يغير من الواقع شيئا لكنه سيرافقه في ابنته أمد العمر

قال لها مرّة ذات بوح بنبرة مُعتذِر: "أحايين كثيرة نختار الخيار الخطأ مُعتقدين لجهلنا أنه عين الصواب، بعض الخيارات لا نملك حق اختيارها حتى لو كانت أرواحنا تواقة لها، لأنها ببساطة ليست من نصيبنا ولن تكون يوما كذلك". لم يكن حينها يعلم أنّه هو مَنْ كان خطأها الأوحد، يوم علّقت قلبها به وحده عن باقي الخليقة دون سواه، من دون أن تترك حتى مسافة أمان للتخفيف من آثار جرح قد يخلفه يوما ويمضي تاركا الروح صحراء شرسة ذات جفاء.

   
هكذا أرواحنا، كالعقدة الرابطة عضلة القلب بالوتين، تتشبث بكل ما تملك من قوة بمن يضخ النبض فيها، تتعلق في غفلة منا بمن يجعلها تسبح في ملكوت الحب، ويمنحها جرعات أمان وطاقة إيجابية، تفتح ذراعيها لمن يمعن الإصغاء لها، لمن تلوذ بعينيه كلما داهمها فرح أو حزن، لمن له القدرة على بعث أجنحتها من تحت الرماد، تتعلق أكثر بمن تكون في حضرته على طبيعتها بلا تكلف أو تصنع، تتشبت دوما بمن له القدرة على منحها الدهشة، بمن يجعلها تعانق جنون اللحظة مع موسيقى نبضها عند كل حديث يجمعها به، تتعلق بمن يهمس لها أنت تستطيعين أكملي المسير.
   
مشكلة كل الذين خذلوا على مر العصور أنهم رفعوا من سقف توقعاتهم وشيدوا في مخيلاتهم قصورا من الأوهام، مشكلتهم أنهم اعتقدوا أن الواقع كالحلم.. متناغمان، يسيران جنبا إلى جنب، مشكلتهم أنهم منحوا اهتمامهم وانتظارهم أكثر بكثير مما يفترض، مشكلتهم أنهم نسوا أن النية الحسنة في الحب وحدها لا تكفي، بل لابد لنا أحيانا أن نكون متمكنين من تدبير تلك الفجوة بين الواقع والمشتهى، فالحب في النهاية كما الحرب يحتاج مناورة وتدبيرا وتخطيطا وحسابا بالمسطرة والميزان، وإن اختلف هذا المنطق مع مبدأ الحب . الذين خذلوا في الحب ليسوا سُذّجا لأنهم تورطوا في حب لم يمنحهم التقدير الكافي الذي يستحقون، فالحب هكذا بطبيعته، يتملكنا في غفلة منا دون استئذان.
   
هي تؤمن إيمانا عميقا أن الحياة لا تأتي دوما على مقاس نختاره، وأن المكتوب له الكلمة الفصل في كل شيء، وأن الأشياء لا تأتي هكذا عبثا؛ فلابد من سبب وحده الله يعلم الحكمة من ورائه، وأن كل نهاية لا تروقنا قد تكون بداية لشيء أجمل. هي تدرك تمام الإدراك أن كلاهما سيشق طريقه ويمضي في درب قد لا تلتقي فيه ملامحهما أبدا، فالحياة جميلة تستحق منا أن نمضي فيها بكل الشغف والبذخ الممكن، لا أن نفسدها بالبكاء على الأطلال. قالت له في نفسها مرّة :"ابنتك القادمة من رحم الغيب سميها باسمي"، تمنّت لو أنها حقا أخبرته بذلك ، فالمُحب يحب دوما أن يترك للمحبوب شيئا منه، سواء كان حروفا طيبة الذكرى جمعتهما، أو دعوة من القلب، أو كلمة طيبة، أو نكتة عبيطة ضحكا عليها يوما، أو حتى اسما قد لا يغير من الواقع شيئا لكنه سيرافقه في ابنته أمد العمر.
    
هي لم ولن تندم على حبها له أبدا، لأنه كان صادِقا أشهدتِ الله على نُبله، قويا قُوة سيل جارف، حلوا حلاوة تعاقب الشتاء والصّيف، مريحا عذبا كدعوات الأمهات، عصيا كنقش فرعوني أو وشم أصيل على ذقن امرأة أمازيغية يأبى أن يزول، جميلا كحجر زمرُّد بلونِ عينيه في خيط أسود على عنقها الأبيض كاللّبن، كان حبها له صافيا تماما كما ذاك النقاء الذي يطلعُ مع البدر.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.