شعار قسم مدونات

أحمد جرار.. حكاية نضال فردي

مدونات - أحمد نصر جرار

ثلاثة أسابيع من الملاحقة الإسرائيليّة المكثفة لأحمد جرار -الشابُ العشريني المولود في برقين قضاء جنين عام 1994- كانت قاسية لتجعل منه شهيدا بدعم من عمليات التنسيق الأمني. الشاب اليافع الذي لم يتمم ربع قرن على وجه هذا الكوكب اختار له الاحتلال أن يعيش يتيما بعد أن اغتال والده "نصر جرار"، أيضا بعد عملية ملاحقة دامت سنة ونصف.

أحمد جرّار الذي تتهمه اسرائيل بتنفيذ عملية عسكرية تسببت في مقتل حاخام إسرائيلي وجرح آخر حاولت اسرائيل اغتياله أو اعتقاله أكثر من مرّة ولكنها فشلت، ولم تكلل بالنجاح إلا بالتخابر والخيانة بعد أن أُرهق الاحتلال الاسرائيليّ بحثا عنه. ولكنّ حال أحمد، كحالِ باسل الأعرج وكثير من الشبان الفلسطينيين ممن اختاروا النضال الفرديّ بعد أن تجرعوا عذابات الاحتلال الاسرائيليّ، لينفردوا بقصصهم النضاليّة.

إنّ الحديث عن النضال الفرديّ، اليوم، بعد سيرورة من انتفاضتين لم تأتِ ثالثتها، يعيدني إلى أسباب انتفاضة الحجارة عام 1987، لأفهمَ أن التاريخَ لم يغيّر من أسبابهِ بعد ولكنّ النتائج تغيّرت. شرارةُ الانتفاضةِ الأولى كانت في جباليا- غزة إثر دهس عمال فلسطينيين من قِبل مستوطن. ولكنها كانت نتاجا لعوامل عدّة سابقة أيضا، أبرزها شعور الفلسطينيين بالوحدة وخيبة الأمل بعد أن رفعت مصر يديها عن القضية الفلسطينيّة ووقعت معاهدة كامب ديفيد، وابتعاد منظمة التحرير الفلسطينيّة عن الشعب الفلسطينيّ إثر خروجها من لبنان.

أحمد حالهُ كحال كثيرِ من الفلسطينيين الذين ما إن أدركوا الحياة حتى لفظوا كلمة "الاحتلال" أكثرَ من كلمةِ "أبي"، وجدوا في العيشِ تحت سطوة الاحتلالِ ذلا وقهرا

إن كان هذا الدافع في الماضي ذا قيمة كبيرة، فإنّ الفجوة بين القضية الفلسطينيّة والقيادات العربيّة اليوم قد فاقت إمكانيّة ردمها بسهولة، فالدول العربيّة اليوم لا تعتبرُ القضيّة الفلسطينيّة قضيّة ذات أبعاد فعليّة بل شكليّة، الربيع العربيّ جلب هو الآخر ويلات إضافيّة للشرقِ الأوسط لم تعد تستفيد منها جهة إلا اسرائيل بعد أن أصبحت القضيّة الفلسطينيّة هامشية. لهذا، تأكدَ الشعبُ الفلسطيني اليوم من الخذلان بنوعيه، سهوا أو عمدا، لدرجة لم تعد تثيرُ لديه قريحة التعجّب أو الشكوى.

العاملُ الاقتصاديّ كان سببا آخر في اندلاع الانتفاضة الأولى، ففي ظل البطالة والتضييق الاقتصاديّ وسلب الأراضي الفلسطينيّة وبناء المستوطنات، لم يبق للفلسطينيين عام 1987 إلا العمل في الجانب الاسرائيليّ، هناك حيث فرض ربّ العمل اليهوديّ سلطته وقسوته ومعاملته المهينة على العمال الفلسطينيين البسطاء وأذاقهم مرارة الفقر والتمييز بحيث يتقاضى الإسرائيلي ضعف ما يتلقاه الفلسطينيّ، ناهيك عن التفتيش والتنكيل عبر الحواجز الاسرائيليّة، فما كانَ من الفلسطينيين العمّال إلا الانتفاض ضد سياسة الذلّ الاقتصاديّة.

الحال حاليا لم يتغيّر، بل إنه يبدو أشد سوءا، الانتفاضة الأولى التي انطلقت من غزة لهذه الأسباب، تشيرُ المعطياتُ إلى أنّ نسبة البطالة فيها عام 2017 بلغت 46.6%. والأشد حزنا أنّ 80% من سكان القطاع يعتمدون على المساعدات الخارجيّة الإغاثيّة، أما الضفة الغربيّة فوصلت البطالة فيها إلى 26.5%. وهي معطيات مروعة حقا.

  undefined

أما الانتفاضةُ الثانية في عام 2000 فقد نشبت إثر دخول رئيس الوزراء الاسرائيليّ الأسبق، اريئيل شارون، للمسجد الأقصى، وقتل المصلين الفلسطينيين هناك. وضعُ المسجدِ الأقصى اليوم لم يختلف عن سابقهِ بالاختراق الاسرائيليّ له، بل إنّ حصيلة الاعتداء عليه تقدر بِـ 40 مرّة شهريا. إضافة لذلك قامت اسرائيل مؤخرا بتشديداتها الأمنيّة بنصبِ البوابات الالكترونيّة، ومن ثم استبدالها بكاميرات مراقبة لتضييق حركة المصلين. يذكر أيضا أن إعلان ترامب للقُدس على أنّها عاصمةٌ لإسرائيل، إحدى الخطوات الأكثر سخونة في المشهد السياسيّ.

كلّ هذه الأسباب للانتفاضات السابقة مجتمعة مازالت موجودة، وإذا ما تمّ تحليلها تقضي إلى جواب وحيد مفادهُ أنّه لا بُدّ من انتفاضة فلسطينيّة ثالثة في ظلّ بقاء الظلم والقمع الاسرائيليّ. ربما يكونُ المجتمعُ الفلسطيني اليوم بعد سلسلة حروب وانقسامات ليس جاهزا ليسيرَ نحو المقاومة الشعبيّة مرّة أخرى ما يجعلُ المقاومة الفرديّة، تلك التي يقومُ بها شبان فلسطينيون أمثال أحمد جرار، بابا للخلاص الفردي.

أحمد حالهُ كحال كثيرِ من الفلسطينيين الذين ما إن أدركوا الحياة حتى لفظوا كلمة "الاحتلال" أكثرَ من كلمةِ "أبي"، وجدوا في العيشِ تحت سطوة الاحتلالِ ذلًا وقهرًا. وبعكسِ ما تصوّرهُ اسرائيل بأنّه ارهابيّ لشعبها، أحمد الذي درسَ إدارة المستشفيات كان يقصدُ أن يتعلّم فنّ الحياة والنجاة، ولكنّ الاحتلال الذي لم يترك مجالا للفرحِ في قلبه منذ الصغر جعلَ من خلاصهِ الفرديّ رسالة لشعب يريد الخلاص لكنّه تعب من المسير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.