شعار قسم مدونات

لماذا ظَهَرَتْ سُعادُ في آرطغرل؟

مدونات - مسلسل تركي أرطغرل

يَقولُ كعبُ بنُ زهيرِ بنِ أبي سُلمى، في بَديعَتِهِ الخالِدَةِ: بانَتْ سُعادُ فقلبي اليومَ مَتْبولُ.. مُتَيَّمٌ إِثرَها لم يُجْزَ مَكبولُ.

عمومًا لا ندري لماذا بانتْ -أي: غابت- سُعادُ حبيبةُ الشّاعرِ وَمَحبوبَتُهُ، ولو كانَتِ الآراءُ حولَ ذلكَ كثيرةً. أمّا نحنُ الذينَ نَنْسَلُّ مِنْ عَتَمَةِ الواقِعِ إلى نورِ الخيالِ، نحنُ الذينَ بِتْنا نمضُغُ البَيْنَ والغِيابَ كما نمضُغُ طعامَ الإفطارِ بلا وعيٍ ولا أدنى انتِباهٍ، نحنُ القصائدُ التي لا شُرَّاحَ لها، والمُفرداتُ التي لا معاجِمَ لها، أحتارُ بمَنْ أقصدُ وأخصُّ كلمتي (نحن) أَأقصدُ بها الشّبابَ، أم العربَ، أم المُسلمينَ، أم وأم وأم..؟ إن القَصيدَةَ حينَ يكتبُها الشَّاعِرُ بعدَ كَبْتٍ طويلٍ يرى – حقيقةً لا مجازًا – في طيّاتِ صحيفَتِها البيضاءِ دَمًا مُتناثِرًا.

لكنْ لا ننسى أن وجودَ الشّعراءِ مجازٌ، وحياتُهُم كُلُّها مجازٌ، لذلكَ ما البأسُ في أن يروا الدَّمَ حقيقةً ووجودُهم أصلًا مجازٌ؟ وهكذا صرنا (نحنُ)، وجودُنا مجازيٌّ أو ما يتعلَّقُ بوجودِنا. انتصاراتُنا واستقالاتنا واحتفالاتُنا ودبكاتُنا كُلُّها مجازٌ. نَهُزُّ الأرضَ لدبكةٍ ما، ونرفَعُ السَّيفَ لجارٍ ما، ونستسيغُ الهزيمَةَ بألقابٍ تُشبِهُ ألقابَ حُكَّامِ الأندَلُسِ وقتَ ضعفِها:

 

ألقابُ مَملَكَةٍ في غيرِ موضِعِها.. كالهِرِّ يَحكي انتِفاخًا صولَةَ الأَسَدِ

قد نجح المخرجُ حقًّا في إظهارِ شخصيةٍ إسلاميّةٍ لم تكن معروفةً أو تمَّ إغفالُها، ولكنّ نجاحَهُ الخفيَّ كان بإظهارِ سُعادَ خاصّتِنا والتي لأجلها شاهدْنا المسلسلَ وسبَحْنا في أفضِيَتِهِ.

جميعُنا يعلَمُ الحقيقةَ حتَّى بائعو الكَذِبِ يعرِفونَها، ما كانَ تحتَ الطّاولَةِ صارَ يقرؤهُ ابنُ العشرةِ أعوامٍ على إشعاراتِ هاتِفِهِ وَهُوَ عَلى فراشِهِ عندَ استيقاظِهِ مِنَ النَّومِ. إنَّنا في عصرٍ لو أدركَهُ المُتنبّي لدرَسْنا لهُ بدلًا من الديوانِ ألفَ ديوانٍ يتحدّثُ عن غُرْبةِ الإنسانِ وضياعِهِ في مثل هذا الزَّمَكانِ. عصرُنا أكثرُ عصرٍ مُحَفِّزٍ لكتابةِ الشِّعرِ ولكنْ من غرائبِ الصُّدَفِ أن عصرَنا هذا بتحفيزِهِ هذا مُقتَرِنٌ بضياعِ الشُّعراءِ وغُرْبَتِهِمْ، فصارَ وجودُ التحفيزِ يَلزَمُهُ بالضَّرورَةِ غيابُ الشُّعراءِ الحقِّ لا نَوَّاحي المَنابرِ.

يَظهَرُ فجأةً مُسلسَلُ (قيامة آرطغرل)، المُسَلسَلُ الذي تابَعَتْهُ آلافُ الأُسَرِ العَرَبيَّةِ حتّى أُسِرَتْ بهِ، وأَخَذَ بمجامِعِ ألبابِها، والذي فَضَحَ ظمأَنا لانتِصارٍ وَبَطَلٍ حقيقيينِ لا مَجازيَينِ. مسلسل تابعَهُ الأطفالُ وهم يرتدونَ ملابسَ مُقلّدينَ بها ملابسَ الأبطالِ، وتابعَهُ الكبارُ ودمعُ قلوبِهمُ يكادُ يظهر من بين الصّدورِ، وتابعتْهُ الأمّهاتُ حتّى صارَ في دعواتِهم قُبَيلَ الفجرِ بصوتٍ هامسٍ، وتابَعَهُ الجَميعُ.

نعودُ لمَحبوبَةِ الشّاعر كعب، تلكَ الفتاة التي أسرفَ الشّاعرُ في وصفِ جمالِها وخمرَةِ ريقِها، ولكن – على غيرِ عادَةِ الشُّعراءِ – انقلَبَ عليها فجأةً فذَمَّ أخلاقَها ووعودَها (وَما مواعيدُها إلَّا الأباطيلُ) فكانَ هُناكَ تناقضٌ في الظّاهرِ لجأَ لأجلِهِ بعضُ الشُّرَّاحِ إلى البحثِ في ماهيَّةِ سُعاد، فاستنتَجوا أنَّها رمزٌ قصدَ بهِ الشَّاعرُ (أشياءَهُ المُحبَّبَةَ) في العصرِ الجاهليّ والتي سيتركُها لاعتِناقِهِ الإسلامَ، فبانَتْ سُعادُ الشَّاعرِ، وظَهَرَتْ سُعادُ أخرى في مسلسل (قيامة آرطغرل).

ولكنَّ ماهيَّةَ الرّمزيَّةِ تختلِفُ عن تلك، لنجعَلْها مثلًا (شوقًا إلى الحقيقة) كما كانتْ تلك (أشياءَ مُحبَّبةً). ظَهَرَتْ سُعادُنا ونحنُ على قدَرٍ رهيبٍ من التَّعاسةِ والارتِكاسِ والانتكاصِ، وَلكنَّ الذَّمَّ لا يجبُ أن يلتَصِقَ بها -كما في القصيدَةِ – وإنّما فينا (نحنُ) الذين رضينا بالخدعة واقعًا، وواعدْنا الحقَّ فما أتممْنا ليلةً معَهُ، وجالدْنا الهوى فجلَدَنا، وصاحبْنا الخواءَ فامتلأْنا بهِ.

اعتمدَ المُسلسلُ على ثلاثِ دعائمَ: القرآن، الرّاية، السّيف، وقد كانَ التّناغُمُ والتّوافقُ بارزًا بين هذه الدعائمِ، فشكَّلَتْ طابعًا مُنتَظرًا لدى كثيرينَ مِنّا، وهو إعمالُ الدّينِ الإسلامِيّ بكلّ تفاصيلِهِ، والانتقال به من مرحلة التّنظير التي لا أحدَ يتقِنُها مثلنا إلى مرحلةِ التّطبيق. وبهذا أصبحَ يُضرَبُ بآرطغرل المَثَلَ، وبأمثالِهِ نسألُ الخَلاصَ – على غيرِ عادتنا – فدائمًا ما يُضرَبُ المَثَلُ بصلاح الدين أو بابنِ الخطّاب وغيرهم، ولكنْ لا ضيرَ، المهمّ أن نخلصَ فعلًا. وليس حديثي هنا عن المسلسل؛ فقد كُتِبَتْ عشراتُ المَقالاتِ عنهُ حتّى صرتُ كطللِ عنترةَ الذي لم تترُكِ الشعراءُ له فسحةً فيه حتّى غدا لا يعرفُهُ إلّا على سبيلِ التّوهّمِ، فاستنكرَ عليهم ذلكَ بقوله:

 

هل غادَرَ الشّعراءُ مِن مُتَردَّمِ؟!.. أم هل عَرَفْتَ الدّارَ بعدَ توهّمِ؟

 

أقولُ أن حديثي عن انعكاسِ هذا المسلسل بالذّات في صدورِ الناسِ الذينَ تبدَّتْ سعادتُهم وسُعادُهمْ – الشوقُ إلى الحقيقةِ – أثناءَ مشاهدتهِ، فقد كثُرتِ المشاهدُ القتاليّةُ فيه، كثُرَ ارتداءُ ملابسِ الحروب. كثُرَ تَرداد بعضِ العبارات التي فيها من معاني العزّة ما فيها، وقد نجح المخرجُ حقًّا في إظهارِ شخصيةٍ إسلاميّةٍ لم تكن معروفةً أو تمَّ إغفالُها، ولكنّ نجاحَهُ الخفيَّ كان بإظهارِ سُعادَ خاصّتِنا والتي لأجلها شاهدْنا المسلسلَ وسبَحْنا في أفضِيَتِهِ. بانتْ (غابت) سُعادُ كعبٍ لاعتناقِهِ الإسلامَ، فمتى تَبِينُ سُعادُنا لوصولِنا إلى الحقيقةِ؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.