شعار قسم مدونات

موسيقاك أفسدت الفيلم

blogs شيرلوك هولمز

عندما انتهى هانز زيمر المؤلف الموسيقي الشهير من تأليف موسيقى فيلم شيرلوك هولمز، الذي أُنتج عام ٢٠٠٩ بدا أن الموسيقى وإن كانت أعجبت المخرج فإنها لم تعجب المنتجين. بالطبع كلنا يعرف أن المنتجين هم من يدفعون المال وهم بالتالي حريصون كل الحرص على ألا يخسروا أموالهم لمجرد أن مؤلف الموسيقى يريد أن يفرض عليهم ما يعتقد أنه إبداع، فقالوا له: موسيقاك أفسدت الفيلم!
 

شيرلوك هولمز شخصية خيالية في الأدب الإنجليزي، يعيش في بريطانيا في حقبة الملكة فيكتوريا في القرن التاسع عشر، وفي معظم الأفلام التي تم صنعها عنه كان يعزف موسيقى كلاسيكية، كموسيقى (باخ) على سبيل المثال، وبالتالي ما يرتبط في ذهن الناس بشكل عام عن شيرلوك هولمز هو الموسيقى الكلاسيكية.
 

يقول زيمر: كنت أرى الموسيقى الكلاسيكية لا تناسب شخصية شيرلوك، فنحن نعيش في بريطانيا في حقبة الملكة فيكتوريا، حيث توسعت رقعة المملكة وسافر العديد من الناس خارجها وجاء إليها العديد من الناس كذلك، وبالتالي كانت منفتحة على العديد من الثقافات الجديدة، وبالتالي كان الغريب هو المثير في ذلك الوقت، ولذلك قلت إن الموسيقى الغجرية (Gypsy) القادمة من مقاطعات الغجر في أوروبا، أو روما تحديدا ستجذب انتباه شخصية فضولية كشيرلوك هولمز.

 

أينتشتاين يمكنه أن يلعب موسيقى كلاسيكية، لكن شيرلوك هولمز أكثر خطورة من ذلك. ناهيك أن إنجلترا في ذلك الوقت كانت تبدو بالنسبة لي بلدا مزدحما بالأصوات، حيث يمكنك أن تسير في الشارع ليلا فتسمع صوت بيانو رديء قادم من حانة ما، وصوت أكورديون قادماً من مكان آخر. المكان إذن، وشخصية شيرلوك تناسبهما موسيقى أوروبية غجرية أكثر منها كلاسيكية.

 

عندما استمع المنتجون للموسيقى لم تعجبهم، ودار جدل طويل حولها. ما أثار استياءهم أكثر هو أحد مشاهد الأكشن المليء بالانفجارات والقتل، فتوقعوا موسيقى أكشن تناسبه، لكن موسيقى زيمر على هذا المشهد كانت مجرد عزف منفرد بالكمان. شاهد هذا المشهد من هنا.

 

يعرف زيمر أنهم يحرصون على أموالهم كما يحرص هو على فنه وأفكاره. المنتج بشكل عام لا يحب المغامرة. مادام شيرلوك هولمز مرتبطا بالموسيقى الكلاسيكية في كل الأفلام السابقة الناجحة فلنبقى في الركن الآمن ولا داعي للتغيير. عصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، فلماذا المقامرة؟

 

استمر الجدال، وفي بعض اللحظات تعرف أنه من المستحيل أن يقتنع أيّ من الطرفين بما يقوله الآخر. نحن إذن أمام معركة متكررة بين المنتج الذي يريد المال، والفنان الذي يريد الفن. ونعرف أن القرار النهائي دوما بيد الممول الذي إن سئم من النقاش سيطرد الفنان ويأتي بغيره ليفعل له ما يريد.

 

اقترح زيمر حلا وسطا، قال: سأفعل ما تريدون لكن دعنا أولا ننظم عرضا خاصا لبعض الجمهور ولنسمع آراءهم. نال الاقتراح استحسانا وسافر الفريق إلى فينيكس بولاية أريزونا لتنظيم عرض خاص. جلس زيمر في الطائرة أمام أحد المنتجين الذي ظل طوال الرحلة يخبره كيف أن موسيقاه ستقضي على أي فرصة لنجاح الفيلم بل ستقضي على شيرلوك هولمز نفسه.

 

عندما بدأ العرض الذي حضره مئات المشاهدين جلس زيمر وسط الجمهور وشاهد الفيلم معهم. يقول إنه شعر أنهم أعجبوا بالموسيقى في الفيلم.. نعم أعجبوا بها. ثم جاء المشهد الذي أثار استياء المنتجين تحديدا وهو العزف المنفرد للكمان على مشاهد الانفجارات والقتل. يقول زيمر: فوجئت بسيدة تجلس بجواري لا أعرفها ولا تعرفني، تلمس كتفي وتقول (انظر، هذا رائع)، فوددت لو أقول لها "لا تخبريني أنا.. أخبريهم هم".
 

انتهى العرض ونجحت الموسيقى. ذهب زيمر بعدها للمنتجين وقال وهو في قمة السعادة والابتسامة تملأ وجهه (اسمعوا، الآن أنا مستعد تماما لتغيير أي شيء تطلبونه. ماذا تريدون أن أغير؟). فقالوا (لا شيء، لا تغير أي شيء). انتصر الفنان إذن في معركته مع المنتج لأن الجمهور يقدر ويفهم ويشعر بالفن الحقيقي، أكثر من المنتج الذي يحرص دوما على أن يكون في الركن الآمن فيخاف من الابتكار. استمع لموسيقى فيلم (شيرلوك هولمز) من هنا.


في تعليقه على هذه القصة يقول هانز زيمر إنه لا يهتم كثيرا بتقييم المتخصصين والنقاد في صناعة السينما لأعماله، لأن ما يهمه أكثر هو الجمهور، فالجمهور العادي يشاهد ويسمع ويشعر ويتأثر بطريقة مختلفة تماما عن النقاد والمحللين. بشكل عام فالمتخصصون الذين يعرفون كيف تُصنع الفنون لا يستمتعون بالأعمال كما يستمتع بها المشاهد العادي. والحقيقة أن العديد من الأعمال الناجحة في التاريخ والتي أثرت في الناس أيما تأثير، لم تعجب الكثير من النقاد المعاصرين لها، لكن الناس أحبوها وعاشت طويلا جدا… عاشت أطول من أعمار مبدعيها ومنتجيها ونقادها.

 

لدى كل فنان ومبدع حقيقي شيء ما يرغب في إيصاله للناس. لا يهم إن أعجب المتخصصين أم لم يعجبهم، المهم أن يشعر به الجمهور، وهذا هو هدف الفن بشكل عام، أن يجعلك تخوض تجربة تؤثر في المشاهد بطريقة ما.

 

يقول هانز زيمر إن الحقيقة الأولى والأنانية عنه هي أنه يؤلف الموسيقى لنفسه، لأن لحظات عمر الإنسان قليلة وهو يريد ألا يضيعها في إنتاج موسيقى لا يحبها، لكن عندما يعود بذاكرته أربعين سنة إلى الوراء، عندما كان يعزف في حانات إنجلترا في الثمانينيات، حين كانت مارجريت تاتشر في السلطة، حيث الطبقة العاملة تسكن خارج لندن وتعيش أوضاعا صعبة للغاية وتعمل بجهد كبير لساعات طويلة من أجل سد احتياجاتها، فإنه كان يعرف أنه عزفه لهؤلاء العمال في الحانات في ذلك الوقت كان يمثل لهم مخرجا من واقعهم التعيس.

ولهذا ابتكر زيمر عبر سنوات عمله شخصية خيالية لسيدة اسمها (دوريس) تعيش في برادفورد، ولديها ولدان مزعجان وليس لديها زوج، وتعمل بجهد يفوق طاقتها طوال الأسبوع لتوفر نفقات معيشتهم. ثم عندما تأتي عطلة نهاية الإسبوع فإن أمامها خيارين. الأول هو أن تجلس في المنزل وتشاهد التلفزيون، والثاني هو أن تقتطع جزءا من مالها الذي اكتسبته بصعوبة بالغة وتقرر أن تشاهد فيلما في السينما لمدة ساعتين لمجرد أن تشعر بتجربة شعورية مختلفة. يقول زيمر إنه يشعر بالتالي أن هناك مسؤولية على عاتقه أن يجعل دوريس لا تندم على إنفاقها هذا المال، وأن يجعلها تستمتع فعلا بهاتين الساعتين من عمرها، ولذلك فهو لا يؤلف الموسيقى فقط لنفسه، بل هو عبر كل هذه السنوات يؤلفها لهذه الشخصية الخيالية (دوريس).

في الجزء الثاني من فيلم "شيرلوك هولمز – لعبة الظلال"، ذهب زيمر بعيدا واستخدم المزيد والمزيد من موسيقى الغجر، فسافر إليهم في رحلة إلى أوروبا حيث يعيش بعض العازفين منهم في بيوت فقيرة للغاية، ودعا العديد منهم إلى استوديو في فيينا حيث قاموا بتسجيل موسيقى استخدمها في الفيلم. شاهد رحلته بحثا عن الموسيقى الغجرية في هذا الفيلم القصير.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.