شعار قسم مدونات

ثورة أم حرب؟

blogs - ثوار سوريا
لا يحدث شيء في هذا الكون خارج نطاق الصراع والتطور، فالإنسان هو محور هذا الوجود القائم على صراع بين الخير والشر، الثواب والعقاب، وبين الفكر والمادة، وبين المحسوس والمجرد، والجهل والمعرفة. وبدون الإنسان لا معنى لنظرية التطور في فروعها العلمية المؤسسة لنمو الحضارات من جهة وفي جزئها المعرفي الإنساني مساهمة في تطور الإنسان داخل المجتمعات. إذاً بدون الإنسان لا معنى للجدل، ولا معنى للإيجاب ولا معنى للسلب. بيد أن الأمر لا يقتصر فقط على نواحي تفيد البشرية، فكل العلوم والخبرات المعرفية الخاضعة للتجارب التي أسهمت في نمو المجتمعات وتقدمها، هي من جانب آخر خضعت للتسيَّس من قبل أنظمة مستبدة سخرت العلوم والمعرفة لفناء الإنسان لتحقيق مصالح سلطوية، إذ ليس بالضرورة ما هو خير بطبعه أن يبقى خيراً ولا الشرير يبقى شريراً ولا وجود للثوابت وكل شيء هو نسبي، لأنَّ الثابت الوحيد هو غيبي ومجرد وغير محسوس ندركه فقط بالعقل.

ومع انطلاق شرارة ثورات الربيع العربي، أحدثت زلزالاً حمل معه رياح التغيير لمجتمعات أنهكها الجمود واحتكار المعارف من قبل حكامها التي تعمل على بث الروح في أحقاب زمنية كانت قد عززت مفهوم تقديس القائد الفرد كما في عصر النارية والفاشية. ومع نضوج إرادة التغيير في بلدان الربيع العربي في تونس وليبيا ومصر وصولاً إلى العراق وسوريا، أدركت الأنظمة المستبدة أن تيار الثورات لن يقف إلا حين بلوغ الثورات أهدافها، وبلوغ الأهداف يحتم الوصول ملامسة عروشهم لإحداث ذلك التغيير، فلم تتوان الأنظمة العربية في ردع موجة التغيير بل قررت أن تكون سداً منيعاً في وجه الشعوب الثائرة، وسخرت جميع علومها واستقطبت سياسيين وإعلاميين ونخبويين وكيانات مستقلة للعمل على خلق جدار مقاوم تُوكل له مهام وقف المد الثوري مهما كلفها ذلك من استنزاف داخلي أو خارجي لتاريخها الحضاري.

استمر المد السوري حتى هز أركان النظام بمظاهرات سلمية فقط، لا سلاح منتشر ولا وجود للتطرف ولا أي حديث عن الإرهاب، حينها استشعر النظام بدايةَ نهايته

تعززت الفكرة عند بائعي الأوطان عندما أيقنوا أن بوادر الحرية اقتربت تلامس متطلبات الشعوب في سوريا والعراق، وبدأت حينها تتبلور فكرة عامة تقتضي تحويل الثورات إلى حروب استنزاف تحمل في طياتها فناء من قاموا وثاروا على أسيادهم، ولأنهم أيقنوا أنها ثورات فلم تتوان الأنظمة في تشكيل أحلاف ثنائية وثلاثية ورباعية للتفريق بين مفهوم الثورة واستجرارها إلى حروب أهلية تقتل أبناءها.

بدأ التفكير في نقطة الانطلاق فسارع الحكام للعبث في ذاتية الثورة، فزرعوا عملاء وخلايا نائمة وضخوا ملايين الدولارات منها عربي والآخر غربي، وفُتحت قنوات تواصل مباشرة مع سادة الغرب لطلب المساعدة ومد يد العون لهم مقابل فتح الشهية الغربية لتحقيق مصالحهم، تمثلت في نهب ثروات البلاد، من نفط وغاز ومياه عذبة وصولاً إلى إنشاء قواعد عسكرية وجوية دائمة.

وبدلاً من أن تقف الدول الإقليمية في صف حرية الشعوب لتقرير مصيرها بنفسها، سخرت مجالسها الدولية وقوانينها لخدمة الطغاة، وغضت الطرف عن جرائمهم، وخلقت لهم تبريرات وذرائع كي يتم فسح المجال أمام تمرير وتنفيذ المشاريع والمخططات. ولو وقفنا عند محفل المشهد السوري فما تم العمل عليه دولياً وعالمياً لم يحدث على مدار التاريخ، انطلقت الثورة السورية منذ بدايتها 2011 ضد نظام مستبد فاسد، ما زال جاثماً فوق صدور السوريين ومصادراً لحريتهم منذ أكثر من أربعة عقود ونيف، والحقيقة التاريخية تقول "إن نظام الحكم في دمشق هو خير نظام حامي لأمن إسرائيل، فبائع الجولان حافظ أسد لم يرحل إلا بعد تأديته كل الواجبات أمام ربيبته إسرائيل. وعندما استلم الابن بشار سدة الحكم، أُوكلت له إسرائيل عن طريق حليفتها أمريكا مهمة أخرى مفادها الحفاظ على العهود والمواثيق السابقة وعدم المساس بها مقابل ضمان تسيديه على السوريين.

تدخلت روسيا على الخط بعد مجزرة الغوطة، وأخرجت مسرحية تعويم الأسد مع الرئيس أوباما، مما أدى إلى تأهيل الأسد واعتباره  شريكا أساسيا في محاربة الإرهاب
تدخلت روسيا على الخط بعد مجزرة الغوطة، وأخرجت مسرحية تعويم الأسد مع الرئيس أوباما، مما أدى إلى تأهيل الأسد واعتباره  شريكا أساسيا في محاربة الإرهاب

استمر المد السوري حتى هز أركان النظام بمظاهرات سلمية فقط، لا سلاح منتشر ولا وجود للتطرف ولا أي حديث عن الإرهاب، حينها استشعر النظام بدايةَ نهايته، سيما في 2013 عندما استحوذ الثائرون على 85 % من مساحة سوريا، لم يتوان النظام بتسليم مفاتيح البلاد لإيران، فارتمى في أحضانها متأملاً تقديم حلول إيرانية له، مقابل تنفيذ مخطط طهران القديم الجديد، هلال شيعي يصل إلى بيروت مررواً بالعراق وسوريا.

على الرغم من إصرار الغرب والعرب والدول الأوروبية على تركيع السوريين، وإجبارهم على تقديم صك استسلام أمام جلادهم، إلا أن السوريين أبوا أن يرضخوا

استطاعت إيران حوكمة جيش النظام عن طريق زج آلاف الميليشيات لإعادة هيكلته وتنكيهيه تدريجياً بشعارت طائفية، وأرسلت الخبراء السياسين والعسكريين لمصادرة قرارالنظام في دمشق، وعندما استحكم القرار لها أدركت أن تمسكها بشخصية الأسد ووضعه كواجهة لمشاريعها هو الطريق الأضمن لتمريروتنفيذ مؤامرتها، فأوعزت للنظام بارتكاب مجزرة العصر في أغسطس الغوطة الشرقية 2013 راح ضحيتها 1500 شهيد من أبناء زملكا وعربين، كان المصاب جلل على أبناء المعمورة السورية، حدثٌ وقع في عصر الحضارات، ووسط تطور مفاهيم حماية حقوق الإنسان الغربية، اعتقد السوريون أن مثل هكذا فعل لن يمر دون وضع نهاية لنظام الأسد، تأهب الرئيس السابق للأمم المتحدة "بارك أوباما" لضربة عسكرية لنظام الحكم في دمشق، اعتقد الشعب السوري ستكون الضربة الأخيرة التي ستفتح وراءها أبواب الحرية.

لكن سرعان ما تدخلت روسيا على الخط، وأخرجت مسرحية تعويم الأسد مع الرئيس أوباما أدت إلى تأهيل الأسد واعتباره أنه شريك أساسي في محاربة الإرهاب، فُتح ملف الإرهاب في سوريا وتم انحراف الثورة أكثر فأكثر من ثورة إلى حرب، إلى حرب أهلية، إلى حروب مفتوحة ضد الإرهاب، وكل ذلك حدث لأجل قتل كلمة ثورة في نفوس المستضعفين في الأرض، ولم يكلف هذا العمل جهداً كثيراً فالغرب ركب موجة الثورة وشكلوا فصائل ثورية ونظموها يما يخدم مصالحهم، بحجة أنهم مع حقوق الشعب السوري والدعم المقدم هومن أجل إسقاط الأسد، كما الأنظمة العربية عملت على تشكيل فصائلها الجهادية الخاصة تمهيداً لوأد حرية السوريين وتعويم نظام الأسد وإعطائه المزيد من الدعم ومنحت الخطوط الحمراء له لقتل شعبه، ليشهد التاريخ أن الشعب السوري تحول إلى مثال يُضرب به عند حكام العرب لتأديب شعوبها خشية التفكير بالتمرد على الأمراء والسلاطين.

انحرفت بوصلة الثورة بفضل الاستثمارات التي لم تنته حتى اليوم، وتحولت ثورة السوريين إلى حروب دموية، لا لشيء فقط لأنه ممنوع على السوريين معانقة حريتهم المصادرة. كل ذلك لم يمنع السوريين من مواصلة ثورتهم والتأكيد على أنها ثورة وليست حربا، وأيقن الشعب السوري، أن العالم بأسره تركهم يواجهون مصيرهم لوحدهم، فلم يكن الخيار السوري يوماً ما بأيديهم بل كل شيء يفرض عليهم بقوة السلاح والتدمر والقتل والتنكيل والاعتقال وشرعنة القتل كانت دائماً تتم عبر مجلس الأمن الدولي عقب فيتوات روسية دائمة.

وبعد كل هذا يأتيك سائل ويقول: أهي ثورة أم حرب، وآخر يردد لقد بدأت حرب ولم تكن ثورة؟ على الرغم من إصرار الغرب والعرب والدول الأوروبية في تركيع السوريين، وإجبارهم على تقديم صك استسلام أمام جلادهم، إلا أن السوريين أبوا أن يرضخوا، فهم يعلمون جيداً أن الخنوع في زمن الحرب لن يقودهم إلا إلى العودة لحظيرة العبودية والطاعة، أما المضي في التأكيد على أنها ثورة هو الملاذ الوحيد للوصول إلى حق العيش المشترك والحرية المقدسة التي وهبها الله لعباده، فهي ثورة وليست حرب شاء من شاء وأبى من أبى.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.