ونالت العربية حظوة في قصور الحكام على مرِّ عصور الأندلس؛ فكانوا يجمعون الشّعراء ويجزلون لهم المكافآت والعطايا، وهناك من كان يخصّص يومًا في الأسبوع لا يقابل فيه إلّا شاعرًا أو أديبًا. وكان أرباب اللّغة هم من يحظون بالوظائف المرموقة في الدّولة دون غيرهم، ويكلّفون يتعليم أبناء الملوك والأثرياء علوم اللّغةِ وأصولها، وكانوا لا يستخدمون في مراسلاتهم الإدارية إلا العربيّة الفصحى "وكان كبار الدور يرون ذلك مسألة نخوة".
وقد نبغ الأندلسيّون في الشّعر، ولم يقتصر إبداعهم اللّغوي والأدبي على فئة دون الأخرى بل اشتملت جميع الطّبقات من حكّام، وتجّار، وفلّاحين، ونساء، وقد علّق الخطيب القزويني على ذلك بقوله: "قلّ أن نرى من أهلها من لا يقول شعرًا ولا يعاني الأدب، ولو مررْتَ بفلّاح خلف فدانه وسألته عن الشّعر قرض من ساعته ما اقترحت عليه، وأيّ معنى طلبت".
وظلَّ الإسبان يكتبون بلغة العرب وقائعهم ويتسمّون بأسمائهم حتّى بعد خروج العرب منها، ومن ذلك ما كتبه محمد سعيد الدغلي أنَّ: "الإسبان يكتبون صكوكهم ومعاملاتهم اليوميّة باللّغة العربيّة الّتي ظلَّت لغة الثقافة عند الإسبان إلى ما بعد الجلاء العربي عن الأندلس".
ضيّقوا على اللغة العربية العلوم، فما عادت تتجاوز الكتب المنهجيّة، بل جعلوها في الجامعات شمّاعة يرتمي عليها المرء بفشله. |
وما كتبته أعلاه كان ملخّصًا قد كلّفني به أستاذي أ.د.رمضان القماطي لمقالٍ له. والّذي حفّزني لكتابة هذه التّدوينة، أنّ القارئ للتّاريخ العربي الإسلامي لن تغيب عنه ما كانت عليه العربيّة الفصحى من نفوذٍ وسلطان في عصورٍ غابرة، وما غدتْ عليه من تهميشٍ واستهجان. فبالكاد تجد من يستطيع التّعبير الفصيح بشكلٍ سليم من أبنائها، ولا يكاد يكون لها شأن إلّا في المناسبات والنّدوات الخاصّة الّتي تقيمها المؤسّسات المحافظة على اللّغة وتراثها، ولا تجد مِنْ أربابها إلّا التّباكي على ماضيها فأخذوا يردّدون في كلِّ محفل لغوي قول الشّاعر حافظ إبراهيم:
وسعتُ كتاب الله لفظًا وغاية وما ضقت عن آيٍ به وعظات
فكيف أضيق اليوم عن وصف آلةٍ وتنسيق أسماءٍ لمخترعاتِ
ولا يخفى أيضًا ترديد أبيات أحمد شوقي والّتي باتت تشبه لحدّ كبير النّشيد الوطني في اليوم الوطنيّ، فها نحن في يوم الضّاد العالمي من كلِّ عام نردِّد ما يقوله شوقي:
إن الّذي ملأ اللّغات محاسنًا جعل الجمالَ وسرّه في الضّاد
لقد كانت الفصحى هي هويّة الأعراب من قبل الإسلام، حتّى إنَّ القبائل كانت تأتي لتبارك لبعضها كلّما نبغ فيها شاعر، بل أنشأوا سوقًا للكلام يتبارزون فيه بالكلمات، وتكتب معلّقاتهم بماء الذّهب على أستار الكعبة!
أمّا الظّانين بالعربية ظنَّ الجاهلين بها، معتقدين أنّها بعيدة عن دور الحضارة فقد أخطأوا خطأً شديدًا، وضيّقوا عليها العلوم فما عادت تتجاوز الكتب المنهجيّة، بل جعلوها في الجامعات كشمّاعة يرتمي عليها المرء بفشله كآخر ما يمكنه فعله، وأصدق وصفٍ في زماننا هو قول ابن بسّام صاحب الذّخيرة متعجِّبًا من أحوال بلاده قائلًا مامعناه "بعد أن عادت بدوره أهلّة، وأصبحتْ بحاره ثمادًا مضمحلّة" هكذا قال ابن بسّام عند سقوط الأندلس، فماذا نقول نحن على سقوطنا؟ إنّنا نرمي في هوّة سحيقة ليس لها من دون الله كاشفة، وبالعودة إلى حديثي أنَّ اللّغات تسمو بحضاراتها، وكذلك تهبط بانحدارها؛ أين نحن اليوم منَ الحضارة؟ وأين حضارتنا اليوم من الإسلام الّذي يعدّ السّاعد المتين لها؟ وكم من حضارةٍ دخيلة حاربت الإسلام وشوّهت لغته بيننا؟ وهل حقًا هبطت العربيّة إلى الحدّ الّذي تمكنت فيه منّا اللّغات الدّخيلة؟ وأخيرًا هل ستقوم من بيننا نخبة تعيد لهذه الفاتنة روحها؟ الله أعلم.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.