شعار قسم مدونات

عن "دعشنة" السياسة الدولية

blogs علم داعش

ارتسمت في مخيلات الناس صورة نمطية عن ممارسات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، قوامها الوحشية والعنف الأهوج والقتل العشوائي والتهجير والاضطهاد وغيرها من الممارسات اللاأخلاقية. ونحاجج أنه لا تختلف تلك الممارسات المنسوب بتنظيم إرهابي دموي- وهو بالنهاية من الفاعلين من غير الدول- عن الممارسات التي تقوم بها دول كبرى تدّعى القيم والأخلاق لتمييز حروبها العادلة على عشوائية أو عدمية الإرهاب العالمي، أو التذرع بالأخلاق والمبادئ في تبرير سياساتها أو مواقفها تجاه البلدان التي لا تسير في ركابها، أو تجاه نزاع أو أي حالة من الحالات؛ فممارسات كلا الفريقين تخلق الاضطرابات والفتن وعدم الاستقرار وأشكال لا حصر لها من المعاناة الانسانية، فالمعاناة هي المعاناة بغض النظر عن من يتسبب بها، وما دام هناك "ضحايا" يتم تجاهلهم.

باسم الحرب على داعش اُرتكبت جرائم ضد مدنيين في المناطق التي كانت خاضعة لسيطرة التنظيم أو كان له فيه تواجد ما، إما بسبب قصف قوات التحالف الدولي، أو على أيدي القوات الصديقة المتحالفة مع التحالف الدولي، والتي تعمل كقوات برية يوفر لها التحالف الدولي أشكال الدعم الجوي، أو من خلال عمليات القوات النظامية أو العمليات التي تنفذها أطراف إقليمية، وجميعها مرصودة فيما بينهم.

ويمكن القول أن السياسة الدولية اليوم تخلو تماما من أي طابع أخلاقي، كما كانت تفترض بعض نظريات ومدارس العلاقات الدولية، والدليل على ذلك أن من مظاهر "الدعشنة" في مواقف وسياسات الدول الكبرى، أو بالأحرى مكونات المجتمع الدولي من الأزمات والنزاعات القائمة حاليا، تتمظهر في: السكوت وغض الطرف والتواطؤ الصريح و التبرير والشرعنة.

تخلى المجتمع الدولي عن الشعب السوري في مواجهة الآلة العسكرية الوحشة للنظام، وغض المجتمع الدولي الطرف عن سياسات
تخلى المجتمع الدولي عن الشعب السوري في مواجهة الآلة العسكرية الوحشة للنظام، وغض المجتمع الدولي الطرف عن سياسات "التطهير المكاني" التي يقوم بها النظام السوري

ويمكن أن نضرب بعض الأمثلة:
ففي جنوب السودان الذى انزلق إلى حرب أهلية وحشية منذ كانون الأول/ ديسمبر 2013، من حينها وتجرى وببطء مراحل متقدمة الإبادة والتطهير العرقي أمام أعين العالم المتحضر الذى تخلى عن شعاراته: "التدخل الإنساني" و"مسئولية الحماية"، و يعجز المجتمع الدولي عن توفير الحماية للمدنيين هناك.

وربما سيقود الوضع هناك إلى أكثر فظاعة، حيث يكتفى المجتمع الدولي بتقديم فتات المساعدات الإنسانية. وبينما النزاع يتوسع حِدة يوما بعد يوم، ويُسفر عن ضحايا جدد، ومعاناة لا تكاد توصف، الوضع هناك الوضع يراوح مكانه من ناحية التدهور، أو يمضي ليقترب من حافة "رواندا أخرى"!

سوريا مثال آخر؛ ومنذ اندلاع ثورة الحرية والكرامة (2011)، كانت مواقف الدول الكبرى والقوى الإقليمية الأخرى دعم بقاء النظام الطائفي وأنها ضد البديل، والذى ينظر اليه على أنه سيكون نظاما إسلاميا سُنيا أو قومي عربي، ولذلك تخلى المجتمع الدولي عن الشعب السوري في مواجهة الآلة العسكرية الوحشة للنظام، وغض المجتمع الدولي الطرف عن سياسات "التطهير المكاني" التي يقوم بها النظام السوري، وحلفاؤه الإقليميون ، و"الشبيحة" والمليشيات الكردية؛ فباسم التصدي لخطر الإرهاب المزعوم شُرعِنت- تحت إشراف الأمم المتحدة وموافقة الدول الكبرى- الممارسات الوحشية وسياسات الاقتلاع الممنهج والهندسة الديموغرافية ذات المنزع الطائفي.

وكذلك نجد أنه من مظاهر الدعشنة الأكثر تطرفا في ليبيا، أن سياسات القوى الدولية كانت حروب الوكالة، بغض الطرف عن سياسات بعض الأطراف الإقليمية التي رفعت شعارات مكافحة الإرهاب، لاسيما بعد الإطاحة بنظام العقيد القذافي ومع عجز الدول الكبرى وحلف (الناتو) عن إرساء الاستقرار وإعادة بناء أجهزة الدولة هناك.

في ليبيا أيضا، اتخذت الحرب بالوكالة جانبا أكثر وحشية بعد الإعلان عن عملية "الكرامة" التي قادها اللواء المتقاعد خليفة حفتر، حيث تم تسليح تلك القوات رغم وجود قرار أممي بفرض حظر على نقل الأسلحة إلى ليبيا، كما قُدِم الإسناد الجوي لتلك العملية العسكرية، فضلا عن تمويل استجلاب المرتزقة من دول الجوار، وطبقّت سياسات "التطهير المكاني" على غرار ما جرى في سوريا، وكعادته غض المجتمع الدولي الطرف عن كل ذلك.

مؤخرا، بثت فيديوهات لأحد رموز المداخلة، وهو المدعو محمود الورفلى، وهو يقوم بعمليات إعدام جماعي؛ ولم تكن هذه المرة الأولى، إذ سبقتها عدة حوادث مماثلة، ومع ذلك لم تثر تلك المشاهد المروعة حتى مجرد الشجب والإدانة من قِبل المجتمع الدولي.
مؤخرا، بثت فيديوهات لأحد رموز المداخلة، وهو المدعو محمود الورفلى، وهو يقوم بعمليات إعدام جماعي؛ ولم تكن هذه المرة الأولى، إذ سبقتها عدة حوادث مماثلة، ومع ذلك لم تثر تلك المشاهد المروعة حتى مجرد الشجب والإدانة من قِبل المجتمع الدولي.

وفى إطار حروب الوكالة في ليبيا، بدا أن هناك نوعان من الإرهاب: إرهاب مكروه يمثله إسلاميون متطرفون، لا فرق بينهم أكانوا من القاعدة أو داعش او الإخوان المسلمين، يحشّد المجتمع الدولي لمحاربة بلا هوادة، وتحت ذريعته تمارس انتهاكات ضد الأبرياء وشيطنة الخصوم السياسيين.

وهناك النوع الثاني، وهو إرهابٌ "محمود" تمثله قوات صديقة للمجتمع الدولي وتعمل تحت سمعه وبصره، أو فصائل منضوية تحتها، كالفصائل السلفية (المداخلة) التي تقاتل "الخارجين" عليه.

وفى الحالة الليبية، وفى ظل طابع العسكرة الذى يسم المقاربات الإقليمية والدولية، فإن هؤلاء المداخلة (نسبة للسلفي ربيع بن هادى المدخلي)، يعتبرون نمطا جديدا من القوات المسلحة وشبه النظامية والتي من المحتمل أن يصار للاعتماد عليها بشكل كبير مستقبلا من القوى الدولية والإقليمية والدول نفسها، وذلك لأنها تحمل شكليات "إسلامية": فهي سلفية وتستند إلى فتاوى شرعية بضرورة تحريم الخروج على الحاكم الشرعي وقتال من يخرج عليه، وكذلك أنها أثبتت ولاءها في إنفاذ المهام الموكلة اليها، خاصة وأنها توجه جديد، أي تجنيد عناصر من الفصائل الإسلامية، بعد كان الخيارات في السابق تقوم إما على قوات الدول الكبرى أو على الاعتماد على قوات المرتزقة أو القوات المحلية القبلية أو الإثنية أو الطائفية.

مؤخرا، بثت فيديوهات لأحد رموز المداخلة، وهو المدعو محمود الورفلى، وهو يقوم بعمليات إعدام جماعي؛ ولم تكن هذه المرة الأولى، إذ سبقتها عدة حوادث مماثلة، ومع ذلك لم تثر تلك المشاهد المروعة حتى مجرد الشجب والإدانة من قِبل المجتمع الدولي.

نظرا لأن السياسات الدولية في زمننا هذا لم تعد تحركها الأخلاق والمبادئ، غابت أي إشارة لمحاسبة مقترفي الجرائم الوحشية، وبذا تتم شرعنة هذه الممارسات، لا بل يتم توفير الغطاء السياسي والديبلوماسي لتحويلها إلى عملية الكرامة

وبينما كان المجتمع الدولي يغض الطرف عن هذه الأعمال الوحشية تحت ذريعة محاربة الإرهاب، كانت عملية "الكرامة" تهدف حقيقة للقضاء على الثورة الليبية، ومنع إرساء نظام جديد يكون نتاج لثورات الربيع العربي، وبالتالي كانت هذه العملية تواطؤا فاضحا من قِوى الثورة المضادة المدعومة إقليميا ودوليا.

وستكشف الأيام كيف أن قوى كبرى تزعم نشر الديموقراطية عالميا وتصنع الثورات الملونة في بعض المناطق التي تكون فيها الديموقراطية لصالحها، تواطأت مع قوى استبدادية ومليشيات إجرامية لإجهاض موجة الانتقال الديموقراطي بعد الربيع العربي.

على أن أكثر المواقف لا أخلاقيا، وبعد أيام على فيديو الإعدامات الجماعية التي اقترفتها أياد المداخلة الموالين لقوات الكرامة، عندما يحل اللواء خليفة حفتر- وقائد برلمان طبرق وحكومته الموازية- ضيفا مبجلا على باريس، ولأنه يبسط سيطرته على مناطق واسعة بالبلاد ويهدد بغزو العاصمة طرابلس يُرغَم رئيس الحكومة المعترف بها دوليا فائز السراج على المصالحة مع حفتر برعاية فرنسية! 

ونظرا لأن السياسات الدولية في زمننا هذا لم تعد تحركها الأخلاق والمبادئ، غابت أي إشارة لمحاسبة مقترفي الجرائم الوحشية، وبذا تتم شرعنة هذه الممارسات، لا بل يتم توفير الغطاء السياسي والديبلوماسي لتحويلها إلى عملية الكرامة وفصائل المداخلة الموالية لها، لتكون أساسا للجيش النظامي في ليبيا، لا بل ستتم بناء العقيدة الجديدة للجيش الوطني المرتقب.

ومن أشكال دعشنة السياسات الدولية طرق الاستجابة للأزمات الإنسانية، كشبح المجاعة التي قرعت المنظمات الدولية جرس الإنذار محذرة من مواجهة الملايين الموت جوعا في مناطق النزاعات التي تمتد من القرن الأفريقي وبحيرة تشاد والساحل. وهناك التعامل الدولي كذلك مع موجات المهاجرين الذين يبحثون عن الأمن والحماية والعيش الكريم مع تصاعد الاضطراب وعدم الاستقرار في بلدانهم الأصلية.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.