شعار قسم مدونات

البشرية في قبضة عنف "قابيل"

Blogs - Syrian people walk a street near Arabic inscription written on a damaged building reading 'Aleppo is bleeding, I will not give up your soil' one day after a ceasefire was announced, at al-Mashhad neighborhood in the rebel-held part of Aleppo, Syria, 14 December 2016. Syrian Observatory for Human Rights said fighting erupted around the final rebel-held area of Aleppo on 14 December as the scheduled ceasefire and mass evacuation of opposition fighters from the area stalled.
"عندما يُفقد الحوار وتُفقد الأخلاق في ذات الوقت، فلا مفر من مواجهة أبشع صور العنف". هذا ما توصّل إليه المفكّر الكبير طه عبد الرحمن عند مساءلته العنف في كتابه الموسوم بـ "سؤال العنف بين الائتمانية والحوارية" الصادر مؤخراً عن المؤسسة العربية للفكر والإبداع (2017). ففي غياب الحوار والأخلاق إذن ينشأ التنازع بين النّاس، ولغة التنازع الوحيدة، كما هو معروف، هي العنف، بحيث يصبح العنف مع مرور الوقت هو سيد الموقف، وباستفحاله يظهر الإنسان العنيف، الذي يحاول الوصول إلى مراده بالقوة لا بالحوار، مستعملا في سبيل ذلك كل الوسائل المشروعة وغير المشروعة، لأن قانونه يتحدد في الغاية التي تبرر كل وسيلة، كما يقال.

إن الإنسان العنيف هو إنسان متجبّرٌ بالضرورة، محبٌّ للتسيّد والتسلط، ومستلهمٌ العالم القابيلي البشع (نسبة إلى قابيل ابن آدم عليه السلام) في نفسه وسلوكاته، ذلك العالم الذي ينتشر فيه العنف بصورة رهيبة، ويغيب فيه الحوار بصورة واضحة، وبحسب الدكتور طه عبد الرحمن، فإن هذا العالم ينضبط بقانونين اثنين: أحدهما قانون الإحاطة، وصيغته كالتّالي: "كلُّ شيءٍ سياسيٌّ"، أو قل "كلّ شيءٍ سياديّ" ما دام جوهر السياسة هو طلب السيادة، والمقصود بذلك أنّه يمكن أن يتسيّد على كل شيء، إن بالفعل أو بالقوة، وقد يكون هذا الشيء إمّا مادياً أو غير ماديّ. أمّا القانون الثاني، فهو الشمول، وصيغته كالتالي: "كلُّ واحدٍ سياسيٌّ"، أو قل "كلّ واحدٍ سياديّ"، والمراد أن كل فرد يمكن أن يتسيّد على غيره، إن بالفعل أو بالقوة، سواء كان هذا الغير قريباً أو بعيداً"، وحتّى تكون هذه المقاربة المعرفية متقاطعة مع الواقع، يقدم طه عبد الرحمن صفات هذا العالم:

قد يكون العيش في عالم يسوده السلام والثقة والحبّ حلماً بعيد المنال في الوقت الحاضر، ولن يتحقق هذا الحلم في أرض الواقع إلا بعد أن يتصالح الإنسان مع السّماء

– إنّه عالم تنتشر فيه المصالح المادية بإطلاق، وتنعدم فيه الأخلاق، لأن النّاس في هذا العالم متعلقون بالمادة، بعيدون عما يغذّي الرّوح من معانٍ وقيم.
– إنّه عالم يسوده التنازع، فكما يكون التنازع على التسيّد، يكون، أيضاً، على الأشياء.
– إنّه عالم منافق بإطلاق، إذ كل واحد يمكن أن ينازع غيره في كل شيء.
– إنّه عالم ينتهي بالهلاك حرباً، فعندما يكون هناك تنازع على التسيّد والأشياء، فمن الطبيعي أن يؤدي ذلك إلى نشوء صراعات، تقوّض الثّقة والتّعايش في العالم، إذ تتمظهر هذه الصراعات في الحروب المشتعلة في أرجاء كثيرة من العالم.

وفي مقابل العالم القابيلي البشع، هناك العالم الهابيلي المثالي، الذي يتحدّد بقانون عدم الإحاطة بمعنى أن "هناك بعض الأشياء التي لا تقبل التسيّد عليها، سواء كانت روحية أو ماديّة"، أما قانون عدم الشمول فمعناه هو "أن بعض الأفراد لا يقبلون أن يتسيّدوا على غيرهم". في ظلال هذا العالم تجد لغة الحوار هي السائدة بين الإنسان وأخيه الإنسان، لأنّ الأخلاق مؤثّرة في نفسه وسلوكه.

على هذا الأساس، يمكن فهم أسباب العنف المستشري في العالم، فعندما تعيش البشرية في قبضة العالم القابيلي البشع، الذي يسعى إلى مزيد من التسيّد والتملك، وإلى مزيد من السيطرة بالقوة، دون أن تحدّه، أي هذا العالم، حدود أو تضبطه ضوابط أخلاقية، سواء كانت نابعة من شريعة السّماء أو مستمدة من قوانين الأرض، فلا تندهش لحجم الجرائم والدّمار الذي يطال العالم اليوم. ولمّا كانت العلاقة بين التسلط والعنف واضحة، فالسؤال الذي يطرح هو: ما السبيل إلى الخروج من هذا التسلط، حتّى يرتفع العنف عن النّاس، وبذلك يتحقق الأمن والسلام؟

في ظل التسيّد المالي والسياسي الموجود في العالم، وفي ظل ضعف المسلمين وتخاذلهم عن الانتصار لقيمهم ومبادئهم السمحة، حتّى أصبحوا يحاكون الآخر في كل شيء، فالمغلوب، كما استنتج ابن خلدون، مولع بتقليد الغالب، إذ ظهرت حركات تدّعي وصلا بالله، وتعمل على إقامة شرعه على الأرض، متوسلة العنف طريقاً للوصول إلى ذلك الهدف، على ضوء هذه الصورة القاتمة، فإن البشرية ستبقى تتجرّع سموم العنف البشع.

أدى تضخيم "الحالة الأمرية" هذه إلى إهمال "النموذج الشاهدي"، الذي يعطي القيم الأخلاقية الأولوية، ومع أن هذا النموذج يعتبر أصلا للأول وموجهاً له

قد يكون العيش في عالم يسوده السلام والثقة والحبّ حلماً بعيد المنال في الوقت الحاضر، ولن يتحقق هذا الحلم في أرض الواقع إلا بعد أن يتصالح الإنسان مع السّماء، وذلك بكبح جماح الجسد، والعودة إلى الاهتمام بالروح، لكي يحدث التوازن المفقود في الإنسان، وبما أنّ المسلمين يمتلكون هذا الشرط، فلا بد عليهم من التصالح مع الدين، والعمل على الأخذ بأسباب الحضور والقوة، وإن كان الأخذ بأسباب الحضور والقوة أمراً مادياً يحتاج إلى صبر واجتهاد، فإن التصالح مع الدين يحتاج إلى جرأة وجسارة كبيرتين.

هنا يُشخّص الدكتور طه عبد الرحمن الداء عندما يُرجع أسباب التشدد الديني المنشئ للعنف إلى "فساد الفهم للنص"، وإلى "فساد الفهم للواقع"، يتأتى الأول من الالتزام الحرفي للنص، مما يؤدي إلى الغفلة عن المقاصد الشرعية، أما الثاني، فيؤدي إلى الغفلة عن الأسباب الموضوعية. تأسيسا على ذلك، يطرق طه عبد الرحمن هذا الباب، محاولا وصف الداء أكثر من أجل إغلاق المنافذ التي يتسرب منها، مقررّاً بأنّ "الحالة الأمرية" التي جعلت من الامتثال للأوامر أولوية الأولويات أوجدت "أجيالا لا تعرف أن تختار ولا تترك من يختار، ولا تعرف أن تحاور ولا تترك من يحاور، حتى ورث الجيل المعاصر نفسية بلا خِبرَة وعقلية بلا سَعة في مجتمع أمري كله".

لقد أدى تضخيم "الحالة الأمرية" هذه إلى إهمال "النموذج الشاهدي"، الذي يعطي القيم الأخلاقية الأولوية، ومع أن هذا النموذج يعتبر أصلا للأول وموجهاً له، ومنه تستمد المعاني والمقاصد العامة للأحكام، إلا أنّ العلماء أهملوه، ربما بتسهيل من العقل السياسي، مما أدى إلى "نفي الأخلاق" عن الفقه حتّى اختزل إلى مجموعة من الأوامر والنواهي، يتعامل معها الإنسان بنوع من العبودية دون أن يفقه معانيها ولا مقاصدها وأسرارها. ومن ثمّ، فالمقاربة التي يقدمها طه عبد الرحمن لعلاج العنف تقوم على عنصرين أساسيين: الحوار والأخلاق، بمعنى أنه لا يمكن رفع العنف إلا بإشاعة ثقافة الحوار، وترسيخ القيم الأخلاقية المفقودة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.