شعار قسم مدونات

عقليات تقليدية في عصر إلكتروني

مدونات - حجب المواقع
1- التعبير رقي حضاري:
في مختلف العصور، مثّل فن "التعبير" عن الأفكار والأحداث والمناسبات، قمة ما يمكن أن تصل إليه الحضارات الإنسانية من رقي وتقدم. إن التوثيق بتباين صوره وأشكاله، ما زال همزة وصل بين الأزمنة والأجيال، وأداة لنقل المعرفة وتوريثها وتعظيم قيمتها بعامل التراكم. وما بين أول صورة تم نحتها على جدران الكهوف والمغارات قديما، وأول حرف تم نشره على الجدر الإلكترونية، أزمنة طويلة جدا، لكنها متصلة بالطبع؛ لأن الحياة لا تقبل الفراغ.

إن إنتاجات الإنسان الذهنية ومنتجاته المادية خلال رحلة حياته الممتدة، لم تكن إلا محاولات مستمرة لضخ مزيد من الضوء، وصنع إتاحات أكبر. ولم يكن الإنسان المنتج أنانيا في معظم فترات التاريخ، إذ لو كان كذلك لما عاشت معارفه منذ عصر الحجر. ولم يكن العقل الإنساني الحجري متخلفا كما يبدو لنا من مقارنة أدواته بأدوات عصرنا.. بل كان أكثر انفتاحا من عقول معاصرة تنعمت "بتراكم معرفي" بدأه ذلك الإنسان الحجري العظيم.

دفاع الشعوب عن حريتها أمر لا يحتمل التأجيل، مهما كانت مسوغات المستبدين وقدرتهم على إنتاج مزيد من الصراعات، بغرض إطالة أعمارهم على رؤوس الخلق. ولعل أكثر ما يخيف المستبد أن تعرف الشعوب حقيقة ما يجري حولها.

2- جهاد حضاري متصل:
ابتدع الإنسان الكتابة في صورتها البسيطة، وتضافرت جهود كثيرة تاليا في تطويرها وضبطها، وعُرفت فيما بعد أدوات التوثيق، ومن ثم الطباعة.. كانت كل تلك المراحل "جهادا حضاريا" متصلا لتنعم الأجيال الإنسانية التالية بقيمة ما نطلق عليه "التراكم المعرفي". كان الإنسان القديم في مختلف العصور والحضارات، بسيطا في حياته وأدواته، مكابدا صعوباتها في المأوى والتنقل وتوفير الطعام والماء، وقد تخللت حياته القاسية تلك أخطاء جسيمة ضد بني جنسه وثقها التاريخ، ولم يبررها، لكن ذلك "الحجري" لم يرق في أخطائه وتخلفه الذهني إلى مرحلة "حجر الفكر" وحجب المعرفة، ومنع التعبير.

3- المعرفة في قلب المعركة:
رغم تقدم الحياة البشرية، وتطور أدوات الإنسان، وانتشار المعرفة، إلا أن المتصارعين في معترك حياتنا المعاصرة ما زالوا يستخدمون أدوات أكثر تقليدية مقارنة بطبيعة أدوات العصر، من ذلك إخفاء أسباب "الصراع" وإلهاء "الجماهير" بتفاصيل غر ذات قيمة. إن معظم الصراعات في عصرنا لم تعد معارك حقيقية بين "أطراف" تتنازع شيئا حقيقيا، وإنما هي معارك مصطنعة، تهدف في جملتها إلى إلهاء الشعوب، وإغراقها في أتون جدال يبدأ ولا ينتهي، جدال حول كل شيء إلا حقيقة المعركة نفسها. في الصراعات المعاصرة عادة ما تغيب المعلومة، وتحجب المعرفة، وتكمم الأفواه بدعوى المحافظة على "الأمن" و"الوطن" و"مصالح المواطن". وبنفس الدعاوى السالفة يفقد المواطن المغلوب ما تبقى له من حرية وأنفاس ونوافذ.

إن دفاع الشعوب عن حريتها أمر لا يحتمل التأجيل، مهما كانت مسوغات المستبدين وقدرتهم على إنتاج مزيد من المعارك والصراعات، بغرض إطالة أعمارهم على رؤوس الخلق. ولعل أكثر ما يخيف المستبد ويقض مضاجع الطغاة، أن تعرف الشعوب، وتعي حقيقة ما يجري حولها، فضلا عن التواصل بين أهل المعرفة، وتبادل الأفكار بينهم؛ لبناء مواقف أكثر رشدا.

وحتى تعي النخب حقيقة معركتها مع المستبد، وتصبح أكثر صدقا في نقل "الصورة" إلى الجماهير، ستظل أدمغة الاستبداد وفية لتقليديتها في "الحجب والمنع والكبت والحصار" في عصر طابعه "الإتاحة والشفافية والتواصل والاندماج".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.