شعار قسم مدونات

القواعد العسكرية.. بيادق الشطرنج الحديثة

blogs جيش

رُقعة الشطرنج الملونة التي اكتست بها الجُغرافيا، شلت الحركة النارية للجيوش النظامية، وفرضت عليها حروب التمركز في مُربعات تمكنها مِـنْ أداء أدوارٍ دفاعية، وهُجومية، وإدارة مصالح مُشتركة، وخلق ضغوط عسكرية تتدفق في قنوات السياسة فتزيد مِـنْ سُرعتها أو تُحفزها مِـنْ أجل أداء أكثر إيجابية، ومواقف أكثر جدية.

ولأنه مِـنْ الضروري أن تبقى الجيوش قريبةً مِـنْ بعضها، ليحظى السلام بفرصة أكبر مِـنْ الحرب، لقد ساعدت هذه البيادق الحديثة الجيوش على عبور جُغرافيا مُفخخة، مِـنْ دون أن تبتر فيها قدم جنديٍ واحد، ومنحتها حق التمركز في مؤخرة جيوش الأعداء بصورةٍ غير مألوفةٍ لكنها مشروعة، وساهمت في توفير جهود كبيرة كانت تبذل في سباق التسليح البعيد المدى، ليصب تركيز الصناعات العسكرية والحربية في الجانب التقني، لتعزيز القوة التدميرية، وإمكانية التخفي، والقدرات الجاسوسية للجيوش، مع استغلال الدعم الفضائي الذي توفره الأقمار الصناعية، المعدة لهذه الأغراض.

يبقى الأثر السلبي لهذه الاستراتيجية العسكرية الجديدة محصور في الجيوش العربية الكبرى، التي عمدت إلى استبدال عقيدتها القتالية، بعقيدة التحالفات، وأصبحت في حالة اتكال دفعتها لصناعة عدوات وهمية، شكلت تهديداً مباشراً لأمن المنطقة وشعوبها. بجلب المستعمرين وحماية المستبدين. فالغول الضخم الذي ربته الشعوب لحمايتها وقاسمته خبزها، أصبح في ليلةٍ وضحها قاتلاً مأجوراً يسكن الأزقة المظلمة. 

لقد مَرت عملية قتل الجيوش العربية بمراحل عدة أهمها:-

المسافة التي يقطعها الجندي النظامي الحديث مِـنْ نقطة تمركزه الأمنة، إلى نقطة الخطر التي تمثل مهمته الفدائية، أصبحت تساوي أو تقل عن المسافة التي يقطعها الموظف المدني بين محل إقامته، ودائرة عمله

صفقات التسليح الميسَرة، التي جمدت الرَغبة في تحديث الصناعات الدفاعية المحلية، فالجيوش التي تأخذ أسلحتها مِـنْ ظهر البواخر عادة مَا تسقط على الورق، مروراً بالتحالفات القطبية وحروب الوكالة، التي أهدرت القدرة البشرية، وزعزعت عنصر الثقة بين الجندي وقيادته، وأصبحت العسكرية نوبة صعود سلطوي وليست نوبة حراسة، وفترة نفوذٍ وسيطرة، لا فداء وتضحية، فالجندي العربي لا يزال في الميدان يؤدي طقوس العسكرية التقليدية مِـنْ أجل أن يحظىٰ بفرصة للحياة وليس المَوتِ.

 

في الوقت الذي ينظر فيه العالم نظرة مختلفة إلى الجندي النظامي الحديث، فلم يُعد يحتاج لقدرات التحمل البدني العالي، فالمسافة التي يقطعها مِـنْ نقطة تمركزه الأمنة، إلى نقطة الخطر التي تمثل مهمته الفدائية، أصبحت تساوي أو تقل عن المسافة التي يقطعها الموظف المدني بين محل إقامته، ودائرة عمله. كما أن الفترة الزمنية الفعلية لمثل هذه الحروب لا تتجاوز الفترة الزمنية اللازمة لتحضير فِنجان قهوة ساخنة في الظروف الطبيعيّة، لذلك أصبح الجندي مُبرمجاً أو هكراً، يمتلك خفة ومهارات بطل السرك، ولباقة وقدرة عاشق يتسلل في أجواء والظرف، يخفي سلاحه بظل وردة، ويراوغ أبجديات المفاجئة.

لتأتي بعد ذلك اتفاقيات مكافحة الإرهاب، التي كانت بمثابة تسريح للجيوش القديمة، وأسست وحدات مكافحة الإرهاب ذَاتَ المهمات النوعية، والتدريب العالي والنوعي، وبأشراف مُباشر من مراكز النفوذ العالمي. إن العقيدة التي تحملها هذه القوات، تقوم على الفدائية في تنفيذ الأمر، والقتل على أساس التهمة. كما أن هذا الجناح الاستخباراتي قد أتاح الفرصة لاستيعاب قُدرات المافيا، بشكل غير نظامي، واستغلالها بأعمال غير أخلاقية، في دوائر المهمات التي تتقاطع فيها خطوط السياسية مع العمل العسكري.. 

ويبقى السؤال الأهم مَـنْ سيحمي مُستقبل هذه المنطقة، عِندما تهبط أسهم المصالح للحلفاء؟ ولماذا كُــل هذا الفزع الخليجي مِـنْ إنشاء قاعدة عسكرية تركية في منطقة تحرسها بيادات عسكرية مختلفة المقاسات، والروائح؟ أليس الأتراك أكثر صدقاً، والتحالف معهم يصنع بعداً تاريخياً، فالأتراك لم يدخلوا المنطقة مِـنْ أجل النفط، الذي نبع مِـنْ حوافر خيولهم الراحلة بعد المؤامرة العربية الكبرى، والتي كانت تسمى بالثورة.

أَلَمْ يسجل التاريخ في كتبه أن المنطقة العربية لم تتحرر بالكامل وتستقر إلا في قرون الحكم العثماني، ولم يجني ثمر سقوط إمبرطوريتهم العرب، بل مَـنْ جاء خلفهم من قوى الاستعمار الكبرى، ومؤامرات التقسيم العالمية، ووعود الاستيطان.. إن في ذلك لذكرى لمَنْ كان له ذاكرة، وقلب..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.