شعار قسم مدونات

بين الثورة والتيه وتضميد الجراح

blogs - الثورة

عندما كنت صغيراً كثيراً ما كانت تطرق مخيلتي أَفكاراً كانت تُسميها والدتي الرّيفية البسيطة أفكاراً شيطانية وكانت طالما تبددها في مهب الرّيح مرور صورة لوالدي في مخيلَتي، فلم نكن حينها سجناء في وطَننا وحسب لكن حتى أَفكارنا الطفولية البريئة كانت قيد الاعتقال والقمع ومن أَقرب الناس إلينا.

هذه حالنا طيلة أربعين عام نقمع من أقرب الناس إلينا يُرضعنا أهلنا الخنوع للطاغوت الذي عشعش في أفكارنا وثيابنا وفي غرف نومنا، ولم يغادر كبيرة ولا صغيرة إلا وكان له وجوداً مرعباً فيها، فكان محتماً علينا قبل أن ننطلق بثورة ضدَّ الطاغوت أن نثور على أنفسنا وعلى المنازل التي احتوت طفولتنا، وعلى الأشخاص الذين دفعوا الغالي والرخيص في سبيل أن نكبر ونصبح رجالاً، ولكنهم لم يفطنوا لأن ينمّوا بذور الرجولة فينا.

كل اللذين عاشوا في سوريا يعرفون هذه التفاصيل جيداً وما أن تمر على أحدهم حتى يقول إنني أعرفها أكثر من نفسي، وأحفظها أكثر من أي شيء حفظته في حياتي إنها أنا، وهذا المنزل منزلي وذاك الأب أبي، وتلك الأفكار أفكاري ولكن ما الذي جعل كل شيء في بلادنا يتغير.

كل التفاصيل التي يعجز كتاب عن استيعابها تحز في نفسي ليست الثورة عصى سحرية تنقلنا من التعاسة إلى الفرح ومن الشقاء إلى السعادة لمجرد أننا أردنا ذلك، كما أنها ليست وحي إلهي عصم عن الخطأ كما يظن الكثيرون

حاولت منذ أعوام طفولتي وشبابي المبكر أن أحلل كلمة الثورة وأن أعرف أبعادها حيث أتخمت بها أسماعنا، ففي كل الأعياد الوطنية وفي المدارس والمشافي والحدائق والمسارح وفي قاعات المراكز الثقافية وعلى منابر المساجد وفي الخطب اليومية كانت تحضر كلمة الثورة ويتم الحديث عن التحرر والحرية وعن المقاومة والممانعة وكنا نصفق طرباً لهذه العبارات التي يرددها أسيادنا من الرفاق والمسؤولين ولكن أحد منا لم تكن تخطر له الثورة على وجهها الصحيح وما كان ليتجرأ ويسأل عن الحقيقة التي تختفي وراءها. 

يطول الحديث عن الواقع ولكن الحقيقة الوحيدة التي لا زالت تأخذ بكتفي وتهزني وتتخم مسمعي ما هي الثورة الحقيقة؟ وما الذي دفعنا لأن نثور؟ كنت طيلة الأعوام العشرين التي أمضيتها أهيم على وجهي في بلد ضل وأضل وضاع وأضاع، وكنت أزعم أنني أعرف جيداً ما الذي تعنيه كلمة ثورة.

والآن وبعد أن أمضيت ستة أعوام ويزيد وأنا أهب الثورة كل ما أستطيع، وجدتني تائهاً كل التيه، وبعيداً كل البعد عما تعنيه هذه الحقيقة ولا زلت اسأل نفسي أتراني قاصر النظر أم أنني لا أعرف كيف أتميز الأشياء من حولي، أم أن الثورة التي كنت أعرفها لم تكن هي نفسها التي عشتها أم أن هناك من أنحى الثورة منحى آخر.

كل التفاصيل التي يعجز كتاب عن استيعابها تحز في نفسي ليست الثورة عصى سحرية تنقلنا من التعاسة إلى الفرح ومن الشقاء إلى السعادة لمجرد أننا أردنا ذلك، كما أنها ليست وحي إلهي عصم عن الخطأ كما يظن الكثيرون وعندما أبحر مع نفسي وراء الواقع الذي يجري تصل مخيلتي إلى حد تعجز العبور منه لماذا ننسى أننا كنا قطيع من الأغنام في حظيرة هذا القصاب المحترف ما الذي اختلف، الاغتصاب لا أظن ذلك، لقد كنا نغتصب ولكن بإرادتنا، الموت، لا أظن ذلك لقد كنا نسير إلى الموت بأقدامنا، الذل، لقد كنا أذل من صرصار ونحن نبتسم للذل ولا نملك أكثر من ذلك ولكننا اليوم نغتصب ونحن أهل الشرف ونموت ونحن أهل الحياة ونذل ونحن من يصنع الكرامة. 

كل هذه الافكار تراودني الفينة تلو الأخرى ولكن لا أظن أنه يوجد وجه للمقارنة بين الماضي والحاضر وإن المنظرين الذين ما فتئوا يجدون الأعذار ويلتمسون المبررات ما هم إلا ماشية ما رأت النور وقطعان لا يحييها إلا الذبح والتعليق في حوانيت القصابين فلا يظن أحدا أن ما يجري نوع من المقامرة والانتحار حتى لو نسف البلد عن بكرة أبيه.

تتصارع الأصوات التي هتفت هتافاً واحداً وتُباع الدماء التي جرت لأجل هدف واحد ويُأكل بالأشلاء ويُشرب وأنا بين عذوبة الهتافات وبين لون الدم وشكل الأشلاء أضيع

لكن ما يحز بنفسي أن أرى بين هؤلاء التائهين أناس أمضوا حياتهم غرباء من غير وطن ظنا منهم أنهم أصحاب مبدأ، ولكن ما أن فتح لهم الوطن ذراعيه حتى أصموا السمع والنظر ونسوا الأعوام التي كانوا يحلمون بالعودة إلى ثراه، كنت واحد من هؤلاء على الرغم من أني نشأت وترعرعت على ثرى هذا الوطن وكانت غربتي تفوق غربة الجميع فقد جرب الكثير الغربة والبعد عن أرض الوطن لكن ما جرب أحد أن يكون غريباً على ثرى وطنه وبين أهله وناسه. ومن هنا يعود بي الماضي للحضور ويرجع بي المستقبل إلى الوراء، وأسمع صوتا من أعماقي يجعلني كالنائم أعرف الحرية ولا أعانقها وأرى الثورة ولا أستطيع الوصول إليها.

إن وراء الذقون الطويلة والعمائم الملوحة والكلمات المتفقهة والأفكار الاسلامية والحريات المدعو إليها ما وراءه، أناس أوجدتهم الثورة من العدم على مر الأعوام الطويلة التي عايشناها كنا نرى خيالاتهم ولا نرى لهم وجود لكن ما الذي حصل الآن حتى انقلبت كل الأوهام إلى حقيقة، تتصارع الأصوات التي هتفت هتافاً واحداً وتُباع الدماء التي جرت لأجل هدف واحد ويُأكل بالأشلاء ويُشرب وأنا بين عذوبة الهتافات وبين لون الدم وشكل الأشلاء أضيع. 

لست مع النظام ولم أكن في يوم من الأيام، أنا ابن هذه الثورة لكن أنا من صنع الثورة وليست هي من صنعني، وسأبقى على ما أنا أصنع آلاف الثورات حتى أعيش كما أنا، ولكن يعود بي الزمن مرة أخرى إلى الوراء ما بال الذين عاشوا آلاف الأعوام وهم ظل ما قدر له أن يكون أكثر من ذلك ولم يسمع ولم يدري بهم أحد فما الذي حصل حتى أصبح كل واحد منهم بالثورة بلدة بأكملها. 

ثلاثة أشخاص يستوقفونني ويقبضون على كل تفاصيل حياتي ولا يدعون لي منفذاً أستطيع أن أسترق الفكر منه، الأول وهب الثورة كل ما يملك ودفع أمواله وأملاكه وروحه في سبيل حرية بلده، ولم يلتفت إلى الوراء بل ظل يضحي حتى آخر قطرة من دمه فسقط شهيد وترك كل شيء وراءه ومضى ليبقى ومات ليحيى.

أهيم بين هؤلاء وأضيع في تفاصيل كل واحد منهم وأشرد بين الواحد والآخر ولا أجد إلا سؤال يقض مخيلتي لا أعرف له جواب، ترى أيهم مع الرحمن ومن منهم مع الشيطان وكيف لي أن أعرف الثورة وأين أنا بين هؤلاء جميعا

وآخر مضى مغمض البصر معصوب البصيرة تحركه الأهواء وتعصف به الحمية تقدمه التارات ويؤخره أزيز الرصاص يمشي خطوة إلى اليمين وأخرى إلى الشمال يرتعد في مواطن الطمأنينة ويثبت في مواطن الهلع لا يعلم أين يمضي ولا أين تمضي الأيام به.

وثالث ولدته الثورة وأوجده انشغال الناس بتضميد جراحهم وتجبير كسورهم وحفر قبورهم ولملمة ما تبقى من قواهم التي أخارها الدهر وجمع ما قدروا عليه من عزيمة وهمة للوقوف في وجه هذه المحنة التي أكلت الأخضر واليابس وما تركت قلباً إلا وعصفت فيه لتحيله خاوياً وتترك فيه جرحاً لا يكاد يندمل ولا يعرف أيبقى أم يمضي. 

وأنا أهيم بين هؤلاء وأضيع في تفاصيل كل واحد منهم وأشرد بين الواحد والآخر كما يشرد مسافر أضل طريقه في صحراء قاحلة، ولا أجد إلا سؤال يقض مخيلتي ولا يكاد يفارقني ولو لبرهة لا أعرف له جواب، ترى أيهم مع الرحمن ومن منهم مع الشيطان وكيف لي أن أعرف الثورة وأين أنا بين هؤلاء جميعا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.