شعار قسم مدونات

جيوبوليتيك الأزمة

مدونات - السييسي وترمب
كي تفهم ما يجري اليوم، عليك التوقف قليلا عن متابعة الأخبار لحظة بلحظة وعمل "زووم آوت" لمشاهدة الصور من علٍ ومحاولة تركيبها، على الأقل لتكتشف أين هي الأجزاء التي لا تركب على بعضها البعض، لأنها هي الأجزاء التي تشتعل فيها أزمة اليوم. ولا يمكن للشخص المتأمل أن يحكم على الأزمة دون النظر إلى سياقاتها الكبرى، والتي يمكن تحليلها والتعرف عليها من خلال أدوات الجيوبوليتيك، أي: تأثير مواقع الدول ومواردها على إمكاناتها وفعاليتها السياسية، لا سيما خارج حدودها.

نفوذ الولايات المتحدة
ليس سرا أن نفوذ الولايات المتحدة في العالم بدأ يشهد منافسة محمومة من قبل قوى كبرى، تعمل كل يوم على تحويل قوتها الاقتصادية إلى قوة عسكرية قادرة على مزاحمة الولايات المتحدة في هيمنتها على العالم. ولعل السلوك البذيء للرئيس الفلبيني يعد أحد المظاهر الفاقعة لتحول الفلبين مثلا من المدار الأمريكي إلى المدار الصيني الذي يعمل على الهيمنة على بحر الصين ودول جنوب شرق آسيا.

في ظل هذا الخطر الاستراتيجي، قررت الولايات المتحدة تحويل اهتمامها الاستراتيجي إلى شرق آسيا، والتركيز على مدافعة التنين الصيني الذي يطور قوته العسكرية يوما بعد يوم. وإذا ما كتبت على اليوتيوب عبارة The Rise of China أو Will China Rise Peacfully فستندهش من حجم المحاضرات والمؤتمرات والندوات والمقابلات التي تتحدث عما يجب على الولايات المتحدة فعله اتجاه "صعود الصين ".

ها هي ألمانيا تبرز كقوة اقتصادية مسيطرة على القرار في أوروبا، وهي الأخرى بدأت تتململ من الوصاية الأنجلوسكسونية المفروضة عليها منذ سقوط النازية.

وبناء عليه فقد تراجع اهتمام الولايات المتحدة في مناطق أخرى من العالم، لا سيما الشرق الأوسط، وبات الخليج "الفارسي" يحتل المرتبة الثانية أو الثالثة في سلم الأولويات الاستراتيجية الأمريكية، وما يبقيها في مياه الخليج ليس اعتمادها على نفط الخليج، فهي لم تعد كذلك، بل بشكل أساسي للسيطرة على منابع وطرق النفط التي تتزود منها هذه القوى الصاعدة التي تنافسها.

اللاعبون المحليون

أدركت مبكرا هذا التحول الجيواستراتيجي دول قوية تتمتع بالفاعلية السياسية مثل روسيا وإيران وتركيا، وبدأت منذ سنوات باستثمار هذا التراجع في اهتمام الولايات المتحدة في المنطقة، لتقوم هي الأخرى بتوسيع نفوذها الإقليمي، ومحاولة ملأ الفراغ السياسي الذي يحدث عندما تغيب دول مركزية مهيمنة ومؤثرة مثل الولايات المتحدة.

بالطبع هذا ليس جيدا للولايات المتحدة، لأن اتساع نفوذ قوة ما في مجالها الإقليمي وسيطرتها عليه يعني انتقالها إلى مجال إقليمي آخر، وهو ما قد يضع مصالح قوة كبرى مثل الولايات المتحدة تحت رحمة لاعبين آخرين. ويمكن النظر إلى الأزمة السورية على أنها تمثل حرب استنزاف لهذه الدول الثلاث وتوابعها. وهو ما يفسر السلوك الأمريكي الغريب والمفرط في السلبية حيال جرائم النظام السوري، وتراجعها عن خطوط حمر كثيرة وضعتها مع تصاعد الحرب في سوريا.

أوروبا ليست استثناء هي الأخرى، فها هي ألمانيا تبرز كقوة اقتصادية مسيطرة على القرار في أوروبا، وهي الأخرى بدأت تتململ من الوصاية الأنجلوسكسونية المفروضة عليها منذ سقوط النازية. أمريكا اللاتينية تتململ هي الأخرى منذ سنوات، وليس مؤامرة الإطاحة برئيسة البرازيل السابقة على يد حليفها اللبناني الأصل برعاية الاستخبارات الأمريكية إلا أحد تمظهرات الانزعاج الأمريكي والخشية من فقدان الهيمنة الكاملة على القارتين في الغرب الأمريكي.

بيادق اللعبة

في ظل هذا التحول الكبير في شكل وطبيعة العلاقات الدولية، والذي يتجلى اليوم في غياب شبه تام للمجتمع الدولي – ممثلا بمنظومة الأمم المتحدة – عن أي دور حقيقي وفاعل في ضبط إيقاع الأداء الدولي، وجدت عشرات الدول نفسها أمام واقع صعب ومؤلم وجديد تماماً. واقع لم تعتد عليه ولم تحضر نفسها له والظروف الاقتصادية ليست مواتية أبدا لفعل الكثير أو الاعتماد على النفس. ما يحدث اليوم في بورصة السياسيين هو "مقامرات" بالمعنى الحرفي لذلك.

لا يمكن الحكم على الأزمة دون النظر إلى سياقاتها الكبرى، والتي يمكن تحليلها والتعرف عليها من خلال أدوات "الجيوبوليتيك"، أي: تأثير مواقع الدول ومواردها على إمكاناتها وفعاليتها السياسية، لا سيما خارج حدودها.

والكازينو مفتوح لكل أنواع الروليت ورمي الأوراق وتبذير الأموال على مراهنات اللحظة الأخيرة وربما الغش والخداع والتآمر لكسب الرهان أو الخروج بأقل الخسائر. بالطبع ما زال اللاعب الأكبر هو الولايات المتحدة و"الكثيرون" في المنطقة يرغبون باللعب في صفها أو من خلالها، فمصالح الشخوص والأنظمة على شفا جرف هار، وهي ـ أي أمريكا – لا تمانع في ذلك أبدا.

تمويل المرحلة
فالظروف الاقتصادية لشريحة كبيرة من الأمريكيين ليست على ما يرام، وتمويل التوجهات الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة في شرق آسيا يحتاج إلى ترليونات الدولارات، ووعود الرئيس الجديد مرهونة كلها بتحسين الأوضاع الاقتصادية الداخلية وتحقيق الرفاهية للشعب الأمريكي الذي بالكاد صوت له بعد كل سقطاته الإعلامية، وفجاجته، والشكوك التي تدور حول علاقة روسيا بوصوله لسدة الرئاسة. إذاً، من سيقوم بتمويل كل هذه الوعود؟ ومن سيدفع تكاليف التوجهات الاستراتيجية الجديدة للولايات المتحدة؟ الإجابة لا شك تجدونها في كازينو "الساسة"، والممولون أغلبهم من بيادق اللعبة. "البيدق: طائِرٌ مِن الكَوَاسِرِ فِي حَجْمِ الصَّقْرِ، لا يَصِيدُ إِلاَّ العَصَافِيرَ".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.