شعار قسم مدونات

المهدي المنجرة في ذكرى رحيله

blogs - المهدي منجزة
بحلول يوم 13 يونيو 2017، تكون قدر مرت ثلاث سنوات على رحيل المفكر المغربي وعالم المستقبليات المهدي المنجرة، القائد الفكري والمثقف العضوي المهموم بمصير العالم والحامل لآلامه، المدافع عن آماله ومن دعاة التغيير على المستوى العالمي.

ولد المهدي المنجرة بالرباط يوم 13 مارس 1933، لينطلق في غمار حياة حافلة بالتجارب والنضال، سافر لأكثر من خمسة ملايين كم في الطائرة، انتقل في سن مبكرة إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة ليتوج في النهاية بحصوله على الدكتوراه من كلية لندن للاقتصاد والقانون، تقلد فيما بعد العديد من المناصب في أكبر المؤسسات الدولية لعل أبرزها عمله نائبا لمدير منظمة اليونسكو، وانتخابه رئيسا للأكاديمية العالمية للمستقبليات سنة 1981، كما حاز على العديد من الجوائز العالمية، كوسام الشمس المشرقة التي منحها له إمبراطور اليابان، بالإضافة إلى تدريسه في العديد من الجامعات العالمية في فرنسا وإنجلترا واليابان وغيرها.

يعتبره الغربيون من أهم مفكري العالم الثالث، ومرجعا مهما في المستقبليات، إذ لا يمكن لأحد أن يقرأ في كف مستقبل العالم العربي دون العودة إلى أفكار المنجرة. ولعل أهم ما يميز المنجرة اعتزازه بقيم ثقافته التي ظل ينافح ويدافع عنها لأكثر من أربعين سنة قضاها في الغرب، بالإضافة إلى وعيه ودفاعه عن القيم ودورها كعنصر أساسي في بناء أية حضارة، فقد كان منفتحا على جميع الثقافات، فهو كشجرة ثابتة أصولها متجذرة في الثقافة العربية الإسلامية وفروعها ممتدة ومنفتحة على الثقافات العالمية الأخرى، وهذا ما يتجلى في كتابه قيمة القيم، فالثقافة حسب المنجرة لا يمكن نقلها بشكل أعمى إلى مناطق أخرى من العالم دون اعتبار واحترام لهذه المناطق، فالثقافات لا تستنسخ، ولا يمكنها أن تتواصل فيما بينها، ولا أن تغني بعضها البعض، إلا إذا تم الأخذ في عين الاعتبار هذه القاعدة.

يدعو المنجرة إلى مبدأ تعدد القيم الثقافية والحضارية والتي من المفروض أن تحكم أنساق القيم ومنظومة القانون الدولي، عوض إنشائها على لبرلة سياسة القوة وخوصصة العلاقات بين الدول والشعوب والثقافات.

أدرك المنجرة مبكرا حقيقة الصراع وحقيقة النظام العالمي، نظام الأمم المتحدة، ليستقيل سنة 1976 من جميع المناصب في المنظمات الدولية، لاقتناعه بعدم وجود مبرر لاستمرار المنظمة، كما أن القائمين على نظام الأمم المتحدة سوف لن يكون سوى خادم للقيم اليهودية المسيحية وبعلم.

يرى المنجرة أن العالم يعيش حرب قيم، ومن يستطيع أن يفرض قيمه يكن الأقوى حضاريا، فالاستعمار بعدما رحل عن الدول العربية ظل يواصل دوره لكن بشكل جديد، وهو الاعتماد على الاستعمار الحضاري والثقافي، من خلال عشرات المفكرين داخل وطننا العربي، في الجامعات، الوزارات، السينما والإعلام، هؤلاء حسب المنجرة يعملون بوعي أو بدون وعي كآلات لمفاهيم وقيم ثقافية وحضارية تغاير النمط الحضاري العربي وتعمل في اتجاه بوصلة العقل الغربي.

لا يرحب المنجرة بالعولمة ولا يحب استخدام هذا المصطلح لما يحويه من حمولات فكرية وفلسفية ودلالات سيميائة مضللة، فالعولمة حسبه ما هي إلا فرض لنمط معين من القيم من لدن دول الشمال على دول الجنوب، بتزكية ومباركة من أنظمة وحكومات هذه الأخيرة، وكذا بواسطة أقلام مرتزقة وهبت فكرها وتحليلها لفائدة حكام متواطئين في مرحلة ما بعد الاستعمار مع مستعمريهم القدامى. فبعد انهيار المعسكر السوفياتي أفرغت الساحة أمام صندوق النقد الدولي ومؤسسات العولمة الأخرى ومجموعة السبعة الكبار للتحكم في العالم وخلق مرحلة إمبريالية جديدةـ، يطلق عليها المنجرة مرحلة الميقا إمبريالية، والتي حملت عنوان أحد مؤلفاته، الإهانة في عهد الميقا إمبريالية.

لذلك يدعو المنجرة إلى مبدأ تعدد القيم الثقافية والحضارية والتي من المفروض أن تحكم أنساق القيم ومنظومة القانون الدولي، عوض إنشائها على لبرلة سياسة القوة وخوصصة العلاقات بين الدول والشعوب والثقافات، فالشمال لا يمكنه أن يستمر في الحياة بتحقيق تواصل مادي فقط بالآلات والبضائع والكلام السياسي الفارغ، وإنما يجب أن ينخرط في مشروع تواصل ثقافي وحضاري مبني على احترام القيم الإنسانية.

شغل مستقبل العالم العربي والإسلامي حيزا مهما في فكر المنجرة، فالعالم العربي والإسلامي يعيش أزمة كبرى وتيهانا شديدا في ظل غياب رؤيا للمستقبل في وقت يجعل مجتمعاته تسير وتنمو بالصدفة وعلى العفوية.

يعد المنجرة أول من تنبأ بحدوث حروب حضارية، فقد كان صاحب أول مقاربة عن صدام الحضارات قبل صمويل هنتنغتون، لكن شتان بين المقاربتين، إذ تعتبر مقاربة المنجرة مقاربة وقائية تحذيرية تندرج ضمن علم المستقبليات، بذل من خلالها الكثير من الجهود لأكثر من عشرين سنة، جال وصال خلالها عبر العالم، لتفادي ذلك الصدام، وإنذاره العالم بالقنابل الموقوتة التي تنتظره، والحروب التي ستقع لأسباب ثقافية إذا استمر الحال على ما هو عليه، وهذا ما جعله يدعو إلى اتخاذ التدابير الوقائية واقتراح الحلول الناجعة لتفادي الصدام، لافتا الانتباه إلى خطورة تكريس القيم المسيحية اليهودية على باقي الحضارات الأخرى، وعلى رأسها القيم الحضارية الإسلامية، في حين نجد أن مقاربة هنتنغتون تندرج ضمن الدراسات الإستراتيجية، وهي مقاربة تبريرية حتمية تنتمي لمدرسة السياسة الواقعية.

شغل مستقبل العالم العربي والإسلامي حيزا مهما في فكر المنجرة، فالعالم العربي والإسلامي يعيش أزمة كبرى وتيهانا شديدا في ظل غياب رؤيا للمستقبل في وقت يجعل مجتمعاته تسير وتنمو بالصدفة وعلى العفوية وبدون نموذج اجتماعي أو تنموي مستمد من الهوية والثقافة الحضارية، وهو ما يؤدي عكسيا إلى الاستسلام إلى نماذج التنمية الأجنبية والغربية، وبالتالي إلى تقييد حرية الشعوب في تسيير ذاتها والحد من حقوقها الديمقراطية، فقد أصبحت هذه الدول تطبق برامج معدة ومجهزة سلفا بالخارج.

وهذا ما يجعل من الضرورة بما كان نهج سياسة جديدة، هي سياسة الاعتماد على النفس في كل الميادين، تكنولوجيا، علميا، حضاريا واقتصاديا، إذ أن المتأمل لحال الدول العربية والإسلامية يرى عدم وجود سياسات أو استراتيجيات علمية أو تكنولوجية وعدم الاستثمار في البحث العلمي. فاليابان التي يقال عنها خطأ بأنها كانت تقلد التكنولوجيا، فهمت التكنولوجيا وتزيد عليها أشياء لها علاقة بحضارتها وبقيمها وذوقها، وحتى بالألوان التي تحبها، يعني تكييف التكنولوجيا مع المناخ الحضاري والثقافي الخاص بها، خصوصا الدفاع عن اللغة القومية التي يعتبرها المنجرة من الأركان الأساسية للتنمية.

ربما لا يتسع المقام للإحاطة بكل أفكار الرجل وإسهاماته ونبؤاته، إلا أنه يجب التوقف كثيرا عند هذه القامة التي أصبحت أيقونة في تحدي الاستبداد ورفضه للإهانة وسعيه المستمر في الدفاع عن الكرامة والقيم.

وهنا يلفت المنجرة النظر إلى دور المثقف في هذه العملية، فالبلاد المتخلفة هي التي تفتقر إلى عنصر أساسي وهو المجتمع المدني، ففي هذه البلاد رجل الشارع يفكر بشكل مخالف لما يفكر به صاحب القرار في بلده، ودور المثقف هنا هو أن يحاول التقليص من هذه الفجوة، وذلك بمحاولة الرفع من مستوى تفكير رجل الشارع من جهة ومن جهة أخرى يقوم بنقد بناء يواجه به المسؤولين.

تنبأ المنجرة بالانتفاضة التي عرفتها بعض الدول العربية بداية من سنة 2011، وذلك بسنوات عديدة قبل حدوثها، ففي مؤلفه انتفاضات في زمن الذلقراطية سلط الضوء على الأوضاع المتردية في الوطن العربي وعن هجمة الاستعمار الجديد عليه، وتوقعه لسقوط العديد من الأنظمة العربية.

ربما لا يتسع المقام للإحاطة بكل أفكار الرجل وإسهاماته ونبؤاته التي تحقق الكثير منها، إلا أنه يجب التوقف كثيرا عند هذه القامة التي أصبحت أيقونة في تحدي الاستبداد الكوني ورفضه للإهانة وسعيه المستمر في الدفاع عن الكرامة والقيم الحضارية والإنسانية، فما أحوجنا اليوم إلى أمثال هذا الرجل الذي كان أمة لوحده في زمن التيه.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.