شعار قسم مدونات

منبّه السماء الصادق

blogs عالمية الاسلام

لا تنفكُّ خبايا القرآنِ وحقائقُه تظهر لنا كلَّ مرّةٍ أوضحَ من سابقتها، وأجزل، وأدعى للتفكير والعمل، وأقربَ للواقع.. تثبّتُ قاعدةً من قواعد الحياة، وسنّةً من سنن الله في الكون، آخذةً بأيدينا -إن أردنا- إلى أمان الشعور والمصير. فإلى جانب ما في هذا الكتاب العظيم من إعجازٍ لغويٍّ بليغ، وعلميٍّ دقيق، وتشريعيٍّ مُنصف، فإنّه منبّهٌ صادقٌ لا يخيب، ولا يغيب! ففي كلّ مرّةٍ أمرُّ فيها على إحدى قصص القرآن أو الحوادث المذكورة فيه، وأرانا نعيشُ ذاتَ القصة بذاتِ الفكرة، ثابتٌ كلُّ ما فيها عدا الزمان والشخوص.. أتساءل! ألا يعلمُ شخوص القصة الجدد أنهم الأبطال الحاليون لها؟ وهل يَصعُبُ عليهم تمييزُ الظروف التي تُحيطهم فيعلموا منها مكانَهم بين الأحداث؟ وما ينتظرهم بعد ذلك؟

فصلاح القرآن لكلِّ زمانٍ يعني أن ترى الآن مكانَك فيه، وشعورَك بين سطوره، ومآلَك وما ستصير إليه.. يعني أن تتنبّه من خلاله لحالك بناءً على حال الأولين، وللقصص التي تراها بناءً على القصص التي جاءت فيه، ولزمانك بناءً على ما أَخبر. يعني أن تصحبه معك دومًا فيخففَ حيرتك، وينتشلَك من ضعفك، ويُجيب تساؤلاتك، ويُعينك على نفسك، ويردعك عن ظلمك، وينهاك عما نهى الله عنه. يعني أن تعلم من خلاله أنّ قوّة الإمداد من قوّة الفكرة، وأنّ أهل فكرة الحق هم الأقوى على مرِّ الأزمان، مهما تداولت الأيامُ وانقلبت الموازين.. سخّر الله لهم الظروفَ كلَّها وأمدّهم بعونه حتى يكونوا في النهاية فائزين.

يعني أن تعلم أنه لا يستوى الخبيث والطيّب، فلا استواءَ بين الشيء وضدّه، لا في الأشخاص ولا الخيارات ولا القرارات، مهما غلّفوا الخبيث وزيّنوه فأعجبك، وحقّروا الطيّب وصغّروه فأبعدوك عنه. يعني أن يعلم سجينُ الحق أيًّا كان سجنُه أنه في دورِ يوسف عليه السلام، وأن التمكين جزاؤه فليتق ويصبر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين. يعني أن يعلم المُهاجرون بدينهم إلى الله أنّ في الأرض مُراغمًا كثيرًا وسَعة، وأنَّ الأرض لله يُورثها من يشاء من عباده، والعاقبة للمتقين. يعني أن يتنبّه الظالم لما جاء من قصصٍ عن حال فرعون ومآله، إذ علا في الأرض وتجبّر، واستخفّ قومه فأطاعوه، وأملى الله له ليزداد إثمًا، ثمّ كانت نهايته عبرةً لمن اعتبر.

أنّنا نملك بين أيدينا منبِّهًا من السماء، صادقًا واضحًا لمن يتجافى جنبه عن مضجع الدنيا خوفًا وطمعًا.. أمّا الهاجعون على الدوام ففي آذانهم وقرٌ، وهو عليهم عمى، أولئك يُنادَون من مكانٍ بعيد

يعني أن ترضى بقسمةِ الله في رزقه ووعده، ولا تمُدَّ عينيك إلى ما متّع الله به غيرك، واثقًا بعدل الله، مؤمنًا أنّ رزق الله خيرٌ وأبقى. يعني أن يعلم من بَعَثر الذنبُ قلبَه، وضاقت عليه الأرض بما رحبت إذْ كان من المتخلّفين عن الركب السائر إلى الله، وضاقت عليه نفسُه، أنْ لا ملجأ من الله إلا إليه، فهو التوّاب الرحيم. يعني أن ترجو الله دومًا أن يَجنُبَك وبَنيك عبادة الأصنام، من أموالٍ وشخصياتٍ وإعلام، وأن يجعل نار الثبات عليك بردًا وسلامًا. يعني أن نؤمن أنّ مع العسر يُسرا، وأنَّ الله يُخرج الحيّ من الميّت، وأنّ الكلمة الطيّبة كمثل شجرةٍ طيبةٍ تؤتي أُكُلها مودّةً ورحمة، وأنّه لا ييأس من روْح الله إلّا القوم الكافرون.

لمّا وصف نبيُّنا -صلّى الله عليه وسلم- هذا القرآن بأنّه "سبب"، طَرَفه بيد الله والطَرَف الآخر بأيدينا، لم يقُل ذلك عبثًا ولا الوصف جاء جزافًا .. إننا حقًا نملك طرفًا من هذا الكتاب العظيم، يأتينا بالتنبيه من عند الله، إن تمسّكنا به، لن نضل عن الطريق ولن نهلك في الدارين أبدًا. هذا بالطبع غيضٌ من فيض، لكنّ الثابت الذي لا يتغيّر هو أنّنا نملك بين أيدينا منبِّهًا من السماء، صادقًا واضحًا لمن يتجافى جنبه عن مضجع الدنيا خوفًا وطمعًا.. أمّا الهاجعون على الدوام ففي آذانهم وقرٌ، وهو عليهم عمى، أولئك يُنادَون من مكانٍ بعيد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.