شعار قسم مدونات

شهر رمضان.. والبرامج التلفزية

blogs - TV
وهل رمضان، شهر الرحمة والمسارعة إلى رضوان المولى للبعض… وشهر التمدد والاستلقاء أمام شاشة التلفاز للبعض الآخر؛ فبمجرد ما أن يلوح طيفه حتى تشرع القنوات التلفزية في تراشق الاستغباء المجتمعي والتنافس، أيها ستنال لقب التافهة عن جدارة واستحقاق، مع بعض الاستثناءات الطفيفة، لتجد المتلقي معتكفا أمامها… قابعا.. راميا خلفه أولوياته الدينية… الأسرية والشخصية.

ينتقل برشاقة من قناة إلى أخرى يكاد أن يسبق أزرار جهاز التحكم في تغيير المحطات… ثم يجلس إلى مائدة الإفطار ليلخص يومه بقوله: لا جديد في التلفاز هذه السنة كل البرامج مملة؛ حينها فقط تعلم جيدا أنك تعيش في مجتمع مختل يزعزعه التناقض وتحمد الله وتثني شكرا لأنك لا تجرؤ على القيام بهكذا تصرف ولو بينك وبين نفسك.

رمضان، أو ما يسميه البعض شهر الفرجة والاستمتاع حيث تكثر المسلسلات والبرامج وتكتظ خلف الشاشة.. هنا فنان يكرر نفسه في جل القنوات حتى يخال لك أنه الوحيد المتمكن في الساحة الفنية.. وهنا برامج الكوميديا المبكية التي تتيح للمتابع فرصة تجربة كل الأحاسيس عدا الغبطة والضحك..

بالرغم من هيمنة وسائل الاتصال الأخرى من هواتف ذكية وحواسيب ولوحات الكترونية… إلا أن التلفزة تحتل الحيز الأكبر في تنشئة المجتمع لأنها هي المتاحة في وجه كل الأعمار.

ثم إعلانات لمنتوجات عديدة بموسيقى صاخبة وحركات متعبة للنظر، بعضها نعرفها والأخرى نكتشفها لأول مرة… ليستمر الاستفزاز سنة تلو الأخرى… ضحك على الذقون واستهزاء في واضحة النهار بمستهلك اقتنى -جهاز التلفاز- يوما والغرض: التسلية، ليجد نفسه منجرفا نحو القاع شيئا فشيئا… كيف لا؟ وهو الذي صار يعبد ذاك الاختراع ويأبى مفارقته.

في اليومين الماضيين، كنت قد صادفت صورة نشرت في إحدى صفحات الفايسبوك تعود لسنة 1998 وهي عبارة عن برامج رمضان للقناة المغربية الأولى، صورة أثارت في الحنين إلى الزمن الجميل وجعلتني أتأسف على حالتنا وأتمنى العودة إلى الخلف؛ حين كانت التلفزة تقدم فقرات ثقافية ودينية ووثائقيات وطنية.. ابتهالات وأمداح نبوية ورسوم متحركة هادفة للأطفال..

حين كان الطرب الأندلسي يصاحب الإفطار، وكانت المسلسلات المعروضة منتقاة بعناية.. حين كان الهدف من التلفزة: الترفيه بوعي، التنوير والبناء.. وكان الضمير المهني حيا يرزق ولم تعرف بعد التجارة بالثقافة طريقا إلى قلب الإعلام… بيد أن السنين جرت في منحى بعيد عن ما عهدناه في الصغر واعتمدت التسويق والربح بأي ثمن ولو على حساب عقول ونفسيات المتلقين…

"أعطني اعلاما بلا ضمير، أعطيك شعبا بلا وعي"، قولة لجوزيف جوبلز تلخص ما آل اليه الإعلام في عصرنا؛ فقر مدقع في الضمير، الشيء الذي يلقي بالمستهلك في هاوية الجهل تدريجيا. لست من متابعي التلفاز الأوفياء ولا من متجنبيه، الأمر بالنسبة لي يقتصر على نوع المنتوج المقدم ووجودته وزمن تسويقه أيضا؛ ما نراه في هذا الشهر الفضيل يدمي القلب حقا ويغرس فيه غصة يصعب بلسمتها…
 

فبدلا من أن يساهم الإعلام في رفع درجة الوعي لدى المتابع ولو بقطرات بفقرات توعوية وتحسيسة تضيئ في فكره الجانب المظلم وتحفزه على فعل الخير ولو بذرة.. بدلا من أن يخرج منه إنسانيته المتوارية بخجل ويبلورها مغتمنا شهر السكينة… يتفانى هو في التدمير والهدم من خلال ما يقدمه من سطحية.

هنا فنان يكرر نفسه في جل القنوات حتى يخال لك أنه الوحيد المتمكن في الساحة الفنية.. وهنا برامج الكوميديا المبكية التي تتيح للمتابع فرصة تجربة كل الأحاسيس عدا الغبطة والضحك.

فالبرغم من هيمنة وسائل الاتصال الأخرى من هواتف ذكية وحواسيب ولوحات الكترونية… إلا أن التلفزة تحتل الحيز الأكبر في تنشئة المجتمع وتلعب الدور الفعال في التأثير عليه فكرا ونفسية؛ لأن الأخيرة هي المتاحة في وجه كل الأعمار وكل الطبقات الاجتماعية والمرجع الأول والأخير في تلقي المعلومة.. لذلك تجدها تعايش أفراد البيت اليوم بأكمله وتشاركهم كل اللحظات، الشيء الذي يجعل منهم سجناء سحرها ومستهلكين شرهين لوجباتها كيفما كانت جودتها.. المهم أنها تشبع رغبتهم وتشفي غليلهم في التسلية والترفيه وهدر الوقت…

أكتب هذه السطور بمرارة، فأن أرى سيدة مسنة تهرول نحو التلفاز، تشعله، وما إن تدوي موسيقى "جنريك" المسلسل التركي المدبلج حتى ترفع الصوت مخرسة من حولها، منتبهة ذاك مؤلم حقا؛ أن تجد طفلا يحفظ الإعلانات عن ظهر قلب ويتابع بشغف كبير برامج لا تناسب سنه فذاك مؤلم؛ أن أسمع عن شاب يرفض الذهاب إلى المسجد لأن التفاهة حان وقت إيداعها، وعن أم تهمل أسمى مهمة في الحياة : -التربية- وتنساق خلف الشاشة، وعن شخص يبقى حبيس البيت ليتابع ما فرض عليه متجاوزا حياته الحقيقة… فذاك مؤلم حقا.

أن يعبد المجتمع آلة تصنع الجهل فذاك شيء مؤسف ومخزي بالفعل. لا ألقي باللوم على المستهلك، لكنني ألوم القنوات التلفزية على رداءة ما تقدمه خصوصا في شهر رمضان، والتي تعود لها مسؤولية الإصلاح وتحمل على عاتقها أمانة الرسالة.. أما الأول فكل ما عليه فعله هو الاقتناع بأن التلفزة وسيلة للتسلية فقط لا أقل ولا أكثر ولم تخترع لتعبد.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.