شعار قسم مدونات

حوار بين الاقتصاد والكيمياء حول الذهب كنقد عالمي

blogs - سبيكة ذهب
لعب الذهب دورا مهما ومحوريا في جميع الحضارات التي تعاقبت عبر التاريخ، حيث بقي الأصل شبه المطلق للاحتفاظ بالثروة، فقد مثل الذهب على مر التاريخ الإنساني، قيمة روحية ومعنوية للإنسان، تطورت وأصبحت قيمة اقتصادية فيما بعد لاكتشاف الإنسان ندرة هذا المعدن الأصفر، ليتحول الذهب في النهاية وبشكل فجائي ومحير إلى مجرد سلعة مثل بقية السلع، وذلك بعد القرار التاريخي للرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون يوم 15 أوت 1971، بعد إعلانه عن توقف الولايات المتحدة الأميركية العمل بقاعدة صرف الدولار بالذهب، والتي تم الاتفاق عليها في مؤتمر بريتون وودز سنة 1944، ومنذ ذلك التاريخ استُبعِد الذهب من التداول الرسمي كنقد ونُزِعَت الصفة النقدية عنه بعد أن أدى هذه الوظيفة لأزيد من 4000 سنة.

في نهاية القرن التاسع عشر كُشِفَ في تل العمارنة (مصر) عن أرشيف من الألواح الفخارية يتضمن مراسلات الفراعنة في القرنين الخامس والرابع عشر قبل الميلاد مع حكام بلاد آشور، بابل، الميتانيين ودول شرق أوسطية أخرى، وكذلك مع الدول التابعة للفراعنة في سوريا وفلسطين، ويدور الحديث في هذه الرسائل عن الذهب غالبا، فمصر كانت غنية به، بينما كانت الدول الأخرى تعاني باستمرار من تعطش له، وكان الحكام وأتباع الفراعنة يلتمسون على الدوام تقاسم هذه الثروة مع الفراعنة ويعرضون لقاء سلعهم وبضائعهم الخاصة، ولعل ذلك يعتبر من أقدم الوثائق التي تبرز وظيفة الذهب كنقد عالمي وكعامل هام في العلاقات النقدية الدولية، لكن قبل الخوض في مسائل التاريخ الاقتصادي والنقدي للذهب والنظام المالي العالمي لاحقا، سأسلط الضوء على سر تربع الذهب على عرش النقود في العالم وفي كل الحضارات التي عرفتها البشرية تقريبا لأكثر من أربعة آلاف سنة، انطلاقا من علم الكيمياء وذلك إيمانا مني بمبدأ تكاملية العلوم والفروع المختلفة للمعرفة.

قامت قناة بي بي سي العالم بمحاورة البروفيسور المتخصص في الكيمياء في كلية لندن الجامعية آندري سيلا (Andrea Sella)، حيث قدم سيلا مراجعة شاملة ومعمقة للجدول الدوري للعناصر الكيميائية لكي يجيب على سؤال مهم جدا، وهو لماذا من بين كل العناصر والأوزان الذرية المعروفة في الكون، ينفرد الذهب بشكل أحادي وبخصائص مثالية أهلته لأداء وظيفة النقد العالمي دون منازع؟

يأتي الدور على عناصر أخرى تم استبعادها بسبب إشعاعها، كاليورانيوم، البلوتونيوم، فلا أحد يريد أن يحمل معه نقودا تصيبه بالسرطان فيما بعد، حيث تضم هذه الفئة حوالي 30 عنصرا مشعا، والتي يتم إنشاؤها في المخابر.

كلنا يتذكر الجدول الدوري للعناصر الكيميائية، والذي درسناه في المرحلة الثانوية، فهو يبدو كمصفوفة من المربعات، كل مربع يحتوي على عنصر واحد، يحتوي الجدول على 18 مربعا عرضا، و9 مربعات ارتفاعا، حيث يحتوي كل مربع على اسم العنصر وحرف أو حرفين يرمزان له، مع بعض المعلومات المفيدة، كالكتلة الذرية ودرجة الغليان والانصهار، ويشتمل الجدول بهذه الطريقة على 103 عناصر، من الهيدروجين (الرقم الذري 1) إلى اللورنسيوم (الرقم الذري 103)، والأهم من كل ذلك أنه لا توجد عناصر معروفة أو مكتشفة في العالم غير تلك المعروضة في الجدول الدوري، لذلك إذا كنا نبحث عن عنصر ما لكي يؤدي وظيفة النقود فسوف نجده في هذا الجدول.

يأخذنا البروفيسور (سيلا) في رحلة عبر الجدول الدوري، حيث يثبت لنا أن معظم العناصر المعروفة لحد الآن غير مؤهلة لكي تلعب دور النقود، فيقصي الكثير من المواد لعدم استيفائها الشروط الواجب توفرها في النقد (مخزن القيمة، سهولة التجزئة، الاستدامة…. إلخ)، إلى أن يبقي على العناصر التي تمتلك صفات مثالية لأداء دور النقود بشكل جيد.

في البداية يقصي البروفيسور (سيلا) عشرة عناصر مباشرة على الجانب الأيمن من الجدول، بما في ذلك عناصر مثل الهيليوم، الآرغون والنيون، باعتبارها غازات، وبالتالي لا تصلح أن تكون نقودا، وبالإضافة إلى هذه الغازات يرفض سيلا عناصر أخرى كالزئبق والبرومين وذلك لسيولتها في ظل الحرارة العادية للغرفة، كما تم إقصاء عناصر أخرى باعتبارها مواد سامة، مثل الأرسنيك وغيرها من المواد المشابهة لها.

ثم يتحول البروفيسرو (سيلا) إلى الجانب الأيسر من الجدول الدوري والذي يحتوي على العناصر القلوية مثل المغنيزيوم، الكالسيوم والصوديوم، فيقصيها مباشرة، وذلك إما لذوبانها أو انفجارها عند ملامسة الماء، إذ يمكن أن نحتفظ بها كنقود لبضعة أيام إلا أنها تختفي بمجرد نزول المطر، ثم يأتي الدور على عناصر أخرى تم استبعادها بسبب إشعاعها، كاليورانيوم، البلوتونيوم، فلا أحد يريد أن يحمل معه نقودا تصيبه بالسرطان فيما بعد، حيث تضم هذه الفئة حوالي 30 عنصرا مشعا، والتي يتم إنشاؤها في المخابر، وتتحلل بعد زمن قصير بعد إنشائها كالإنشتاينيوم. كما أن معظم العناصر الأخرى والتي لا يمكن أن تلعب دور النقد تتميز بخصائص مشتركة مثل الحديد والنحاس والرصاص، إما بسبب تعرضها للصدأ أو تآكلها بمرور الزمن.

وقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة لسرعتهما في السبك والطرق والجمع والتفرقة والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وانعدام الروائح والطعوم الرديئة.

يواصل (سيلا) رحلته عبر الجدول الدوري فيقصي الألمنيوم نظرا لهشاشته وعدم قدرته على الصمود أثناء التداول، والتيتانيوم وذلك لصعوبة إذابته باستخدام المعدات البدائية في الحضارات القديمة. إلى أن يصل سيلا في النهاية إلا الإبقاء على ثمانية عناصر فقط يرشحها للعب دور النقود مبدئيا، وهي ما يعرف بالمعادن الثمينة أو النادرة، وتوجد في وسط الجدول الدوري، وتتكون من الأوزيميوم، الإيريديوم، البلاتين، البلاديوم، الدوديوم، الروثينيوم، الذهب والفضة، وتعتبر كل العناصر السابقة نادرة جدا باستثناء الذهب والفضة، إذ يوجد منها كميات معتبرة في باطن الأرض أو مستخرجة تسمح بتشكيل العرض النقدي، أما العناصر الأخرى ونظرا لندرتها الشديدة فإنه من الصعب استخراجها بسبب ارتفاع درجة حرارة انصهارها.

في النهاية يصل سيلا إلى الإبقاء على عنصرين فقط يمكنهما أداء وظيفة النقود بشكل ممتاز، وهما الذهب والفضة، فبالإضافة إلى ندرتهما النسبية، يمكن إذابتهما عند درجات حرارة منخفضة نسبيا، كما أنه من السهل تشكيلهما كقطع نقدية، سبائك ومجوهرات. ومن بين الأسباب التي تجعل الذهب يتربع على عرش النقود مقارنة بالفضة، تفاعل هذا الأخير مع كميات ضئيلة من الكبريت في الهواء مما يؤدي إلى تغير لونه، في حين يبقى الذهب على حاله دون تغيير.

يتضح من خلال هذه الرحلة عبر الجدول الدوري أن استخدام الحضارات المتعاقبة للذهب لا يعود لبريقه ولا للمعانه كما هو شائع بين الناس، وإنما احتل هذه المكانة الهامة والمحورية عبر العصور المختلفة نتيجة للخصائص التي يتميز بها والتي أودعها الله سبحانه وتعالى في هذا المعدن النفيس.

وفي الختام قد لا نجد أجمل مما قدمه أبو الفضل الدمشقي في تلخيص الخصائص التي انفرد بها كل من الذهب والفضة على سائر المعادن، وذلك في تصوير رائع في كتابه (الإشارة إلى محاسن التجارة)، عندما قال: وقع إجماع الناس كافة على تفضيل الذهب والفضة لسرعتهما في السبك والطرق والجمع والتفرقة والتشكيل بأي شكل أريد مع حسن الرونق وانعدام الروائح والطعوم الرديئة وبقائهما على الدفن وقبولهما في المعاملات التي تصونها وثبات السمات التي تحفظها من الغش والتدليس، فطبعوهما وثمنوا بها الأشياء كلها، ورأوا أن الذهب أجل قدرا في حسن الرونق والبقاء على طول الزمن وتكرار السبك في النار، فجعلوا كل جزء منه بعدة أجزاء الفضة، وجعلوهما ثمنا لسائر الأشياء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.