شعار قسم مدونات

الفيفا.. الإمبراطورية الناعمة

blogs الفيفا

هدف أي فصيل سياسي هو حشد أكبر عدد من الجماهير لتحقيق غاياته الأسمى، وإعداد رصيد معتبر من الولاءات يجعل أي حزب سياسي يعرف حالة من القوة والراحة السياسية، كل هذا الاهتمام بالعنصر البشري وولاءه في الفعاليات السياسية، سببه تعدد الفواعل المشاركة في العملية السياسية وحالة التنافس بينها في سباق التموضع الأقرب لعصب السلطة، لكن هذا التنافس لم يعد فقط حكرا على الفواعل بل تعدى بسبب التغييرات العالمية دخول متغيرات أخرى تنافس الفصائل السياسية على الأفراد ما جعل قضية الولاء تعرف وضعا جديدا.

إن حشد بضعة آلاف من الجماهير تحت غطاء أيديولوجي واحد في قاعة مؤتمرات أو قاعة رياضات، يعتبر أمرا من الصعب تحقيقه، أو يحتاج جهودا مضنية لتحقيق ذلك، وفي الوقت ذاته نجد الجماهير تتجمع بشكل منهجي منظم وبمعدل ثلاث مرات في الأسبوع، متفقين على مشهد واحد وفعالية واحدة، نعم يحدث ذلك في كرة القدم، دون نسيان الملايين التي لم يساعدها الحظ جغرافيا أو ماديا للحضور، وتتابع الحدث من خلف الشاشات.

إن هذا الاستقطاب الذي أصبحت تحققه مباراة لكرة القدم، يطرح تساؤلا جادا حول سبب نجاح هذه الفعالية الرياضية في حشد ولاء كل هذه الجماهير، فما هي الأشياء التي تقدمها هذه اللعبة للشعوب، لم تقدمها لهم حكوماتهم؟ ومن المفارقات الغريبة، هي أن هذه الجماهير تدفع أموالا لمتابعة المباريات، في حين تقدم الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني امتيازات وحوافز، ومع ذلك تعجز عن حشد خمس ملعب كرة قدم.

في ظل هذا الإدراك الغربي لأهمية هذه اللعبة، بقي العالم الثالث في موقع وعي متأخر لها، إذ مازالت في نظره مجرد لعبة وفضاء للترفيه، في وقت لم تعد هذه اللعبة مجرد كماليات، بل أصبحت آلية للتحكم في الشعوب وتوجيههم، ومؤججة لمشاعرهم ومخدرة لها في الوقت ذاته

إن مباراة كلاسيكو بين فريقين عريقين في إسبانيا تشد انتباه شباب دول عربية، وتجعلهم يتجمعون في المقاهي ومراكز الترفيه لمتابعة 90 دقيقة بكل حماسة وتركيز، في حين يعجز هؤلاء الشباب عن الإصغاء لخطاب رسمي لمدة خمسة دقائق، وإن تعدى ذلك الوقت هذه الدقائق فسيسود الملل والضجر.

لم تكن الأحزاب فقط ضحية هذه اللعبة، وإنما حتى الدول ومؤسسات النظام الدولي الرسمية، إذ أصبح أكثر من نصف سكان المعمورة يدينون بالولاء للاتحاد الدولي لكرة القدم "FIFA"، إذ أصبح شخص من أي مكان في العالم يعرف ما لا يقل عن عشرة أسماء للاعبين رياضيين، في حين لا يعرف ماهي الأمم المتحدة، أو مجلس الأمن، أو حتى أسماء دول، ومنهم من وصل به الأمر انه لا يعرف وزراء أو رئيس بلده.

هذا الاهتمام الغريب بهذه اللعبة، غير مقرون برفاه الناس وسعادتهم، وليس حكرا على فئة معينة من الناس، إذ أصبح أطفال في مخيمات اللاجئين في سوريا والعراق وفلسطين يحلمون بلقاء "ميسي" أو "كريستيانو" ولا يعرفون حتى من هو الأمين العام للأمم المتحدة. هذا الاستقطاب الذي حضيت به الكرة، أصبح منتجا للقوة الناعمة وبنسب ضخمة، إذ عجزت دول عن تحقيق إنجازات الكرة، فلا يتأثر الإنسان العربي بالشأن الفلسطيني، بقدر ما يتأثر بظهور "ميسي" أو "كريستيانو" في زيارة للقدس والوقوف عند حائط البراق.

من الإنصاف أن نصف بأن الفيفا هي تلك الحكومة العالمية، التي تغلغلت عبر الحدود القومية، محيدة البعد الديني أو العرقي أو القومي، بل حصدت ولاءاتهم فأصبحت الشوارع تخلوا من الناس بسبب مباراة لكرة قدم، في حين يعجز حدث وطني عن ذلك. تعدى نمو هذا الكيان ليأخذ بعد الرياضة والسياسة نمط الاقتصاد، إذ أصبح يملك أرصدة مالية ضخمة تعادل ميزانيات دول نامية، إضافة إلى أجور اللاعبين وقيم مبادلاتهم التي أصبحت أرقام خيالية، وما يدعو للغرابة أن إنسان بسيط في الشرق الأوسط يغضب من مسؤول لتقاضيه راتبا في نظره لا يستحقه، في وقت نجده راضيا كل الرضا عن أجرة لاعب في فريق محلي تضاعف راتب المسؤول المغضوب عليه بعشرات الأضعاف، مبررا رضاه بان اللاعب يستحق ذلك وأنها حقه.

أدركت الدول الغربية هذه النقطة -إن لم نسلم بأنها هي من جعلتها كذلك- ومفادها أنه يجب الاستثمار في هذه الإمبراطورية الناعمة، فجعلت من الفرق الرياضية شركات متعددة الجنسيات، تتربع على أرصدة مالية ضخمة، جاعلة منها قطاعا اقتصاديا شانه شان قطاع الصناعة والزراعة والقطاعات المهمة الأخرى.

إن الولاء لكرة القدم أصبح يفوق الولاء للقومية، ومن لم تصبه حمى هذه اللعبة، تلقفته الأيديولوجيات العابرة للقومية، ولا نطلق بهذا حكما مطلقا على الانعكاس السلبي لهذه اللعبة على الدولة القومية، بل ننوه إلى الفرص الممكن الاستفادة منها لو تم استيعابها

في ظل هذا الإدراك الغربي لأهمية هذه اللعبة، بقي العالم الثالث في موقع وعي متأخر لها، إذ مازالت في نظره مجرد لعبة وفضاء للترفيه، في وقت لم تعد هذه اللعبة مجرد كماليات، بل أصبحت آلية للتحكم في الشعوب وتوجيههم، ومؤججة لمشاعرهم ومخدرة لها في الوقت ذاته، بل تعدى ذلك إلى أنه في بعض الدول أصبح إصلاح المنتخب القومي مطلبا شعبيا، وأحيانا ضربا من ضروب الأمن المجتمعي، إضافة إلى البعد الاقتصادي كما ذكرنا آنفا، وهو ما فقهه الصينيون فباشروا سياسة استقطاب نجوم الكرة، يقينا منهم إن ذلك ينعش قطاع السياحة والإشهار، ويسهم بطريقة تفاعلية مع القطاعات الأخرى في الارتقاء بالنمو الصيني، وابتكار مساحات جديدة تستوعب الحجم الهائل للنمو الاقتصاد الصيني.

أصبح القصور في فهم هذه الإمبراطورية وأسسها نمطا من أنماط التخلف، وفشلا في فهم السياسة العالمية والتماشي معها بطريقة عصرية، في حين قطعت دول أشواطا في فهم هذه الحكومة واحتواءها، وتوظيفها لصالح مصالحها، بقيت دول أخرى تراوح مكانها بفهمها لهذا الكيان بأنه مجرد رياضة تلعب في 90 دقيقة.

إن الولاء لكرة القدم أصبح يفوق الولاء للقومية، ومن لم تصبه حمى هذه اللعبة، تلقفته الأيديولوجيات العابرة للقومية، ولا نطلق بهذا حكما مطلقا على الانعكاس السلبي لهذه اللعبة على الدولة القومية، بل ننوه إلى الفرص الممكن الاستفادة منها لو تم استيعابها، وإطلاقها في مسار جديد وممنهج يعطي نتائج مرغوب فيها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.