شعار قسم مدونات

ظاهرة أشباه الكتَّاب

blogs- writing

في أحد الأيام، وبينما كنت تزاول نشاطاتك اليومية المعتادة، وقتما تصفحت أحد مواقع التواصل الاجتماعي، مر عليك عرَضا اسم (فلان الفلاني)، خلت للوهلة الأولى -كما يفترض بك أن تفعل- أنه إعلان عن ألبوم جديد له، أو دور له في مشهد ما لمسلسل شهير، أو ربما تسويق ودعاية لماركة معينة باعتباره أحد المشاهير، سيشرّق ذهنك ويغرّب وقد يخطر في بالك كل احتمال إلا أن يكون للأمر علاقة بالعلم والثقافة والمعرفة، ولكنك تتفاجأ بأنه إعلان له عن توقيع كتابه الأول في إحدى منصات معرض الكتاب القادم!

تتساءل بينك وبين نفسك -مستنكرا- ما مدى ثقافة هذا الشخص ليجرؤ على التأليف، وكم كمُّ اطلاعه ومعرفته، ماذا خَبُر وماذا جرّب، فيم ناقش وبحث، ما حجم قراءاته ومذ متى هي، وكيف هو جَلَدُه في قراءة الأعمال الجادة وجرد المطولات من أمّات الكتب؟! تعلم يقينا أن لا شيء كائن من ذلك..

إذن أنّى له وكيف تسوّل له نفسه أن يخرج لنا بكل بجاحة وصفاقة مزهوا متفاخرا بما أخرج؟! وما أخرج -والله- إلا مسخا مشوها يستحي المرء من تسميته كتابا.. تذهب إلى معرض الكتاب، فتتفاجأ بكم الزحام فيه إذ بالكاد تجد موطئ قدم لك، لكنك رغم ذلك تُسَر بالذي رأيت وتسعد للوهلة الأولى، فأنت تشهد بأم عينيك كيف عادت أمة اقرأ تقرأ، وها هي تقدس الكتاب وتجِلُّه وتبذل في سبيله الأموال الطائلة بلا تردد بل وبكل اغتباط وسرور..
 

ولكن، سرعان ما يخيب أملك وتتلاشى كل الأحلام الوردية التي حسبتها واقعا، فما إن تمعن النظر حتى تلفي معظم التمجهر والاحتشاد عند تلك الدور التجارية التي تبيع بأبهظ الأثمان هذه المسوخ الورقية، من خواطر أو روايات -والرواية العربية هكذا عموما- ذات عناوين رخيصة مبتذلة ومحتوى هابط سخيف، وتكون مبنية -غالبا- على حبكة هشة مكررة، وأسلوب ركيك مهترئ، وخيال قاصر ضيق، وفكر رديء مجدب لا يجيد إلا حشر موضوع الحب -المتمثل في الجنس- والممارسات في نطاق المحرّم في كل صفحة من الصفحات بشكل مثير للشفقة!
 

الكتابة فعل طاهر مقدس، وليس لأي امرئ أن يزاولها هكذا كيفما اتفق، دونما ارتقاء في فكره وتنزيه لنفسه عن سفاسف الأمور، فتأن! الكتابة فعل عميق المعنى بعيد المرمى، سبر غورها ليس من السهولة بمكان، هي عملية خلق في الحقيقة، فتريث!

وأما أولئك الأغرار الذين يكتبون باللهجة العامية كتابات أشبه ما تكون بمحادثات "الواتسآب" -إن صح تسمية ما يفعلون بالكتابة-، ويضعون ذلك الهراء في وريقات متهافتات ثم يتصدرون المنصات للتوقيع على هرائهم، فهؤلاء النار أولى بما كتبوا! لا يفوتك بالتأكيد سمات أعمال هذه الفئة وهي بينة واضحة، إذ هم حريصون على تكثير أوراق الكتاب بأي طريقة، فترى كيف هو حجم الخط كبير وكأنه مكتوب لعجوز ضعيف النظر في آخر عمره، وترى حجم الفراغ المتروك في كل صفحة، حيث يكتب سطر في أولها وسطر في آخرها ولا ننسى بالتأكيد ثلاث نقاط في وسطها، وأما السمة الأهم والآكد فهي صورة إما بابتسامة صفراء ملمَّعة أو بإطراق المتأمل الحزين للمؤلِف مطبوعة بشكل مقزز على غلاف المؤلَف.
 

ناهيك عن الأخطاء اللغوية الفاحشة -إملائية كانت أو نحوية- التي تملأ الكتاب، أخطاء لا يقع بها فتى صغير لديه أدنى حظ من إجادة العربية.. هؤلاء الأشخاص "السبهلل" ليسوا أكثر من عبّاد للأضواء والشهرة، أينما ذهبت راحوا وراءها لاهثين، حتى إذا كان شيء منها في الكتب والتآليف، جَرَوا إليها وشرعوا فيها بلا أدنى اعتبار للمقومات التي تحتاجها، والأمور التي تستند إليها، وما دَرَوا أنهم إنما يصنعون مجدا زائفا ويبنون سموا متوهما! ماذا لو علموا عن الكتّاب والمؤلفين الذي أمضوا أعمارهم وسني حياتهم في الكتابة والتأليف، ليخرجوا بعد ذلك بالكتاب بعد شهور وسنين، وربما أخرجه بعضهم بعد عشرات السنين ليرى النور، هذا وهم أعلام في بابهم، وأرباب علم ولهم باع طويل فيه..

لا يمكن بحال لمرىء منصف أن يعادي التعلم ويحارب الإبداع ويدفن الموهبة، ولكن لا بد من الأخذ بالأسباب والعمل عليها، فمن أراد سلك درب الكتابة وقصدها حقا، سعى وراء ذلك حتى يبلغ هدفه، فله بعد أن يقرأ ويطالع ويبحث الشيء الكثير، أن يحاول الكتابة بينه وبين نفسه، ومن ثم يجرب الكتابة على مواقع التواصل الاجتماعي، آخذ برأي المدققين، سامعا قول الناقدين، وهكذا شيئا فشيئا حتى يتحسن وضعه ويمسي مُجيدا متكمنا في هذا الشأن مشتدًّ العود فيه، فنلفي أخيرا كاتبا ذا عبارة جزلة ومقولة بليغة وفكر حاذق ونَفَس فريد، وهذا هو المآل الحسن. أما أن يأتي المرء وهو بعد ما مارس شيئا من هذا ولا درى به أصلا، فالذي لا مراء فيه أنه سيخرج لنا سوأته الفكرية، والتي إذاما حاكمنا شخصه من خلالها، ليست سوى تعبير عن مكنونه وجوهره الفارغ.

الكتابة فعل جاد وحقيقي، فلا تستخفن بها، هي إن شاءت عرَّتك وأظهرت سوءاتك الفكرية، وإن شاءت ألبستك أبهى حلة وأخرجتك بأجمل منظر، فاحذر! الكتابة فعل طاهر مقدس، وليس لأي امرئ أن يزاولها هكذا كيفما اتفق، دونما ارتقاء في فكره وتنزيه لنفسه عن سفاسف الأمور، فتأن! الكتابة فعل عميق المعنى بعيد المرمى، سبر غورها ليس من السهولة بمكان، هي عملية خلق في الحقيقة، فتريث! ربما غلبت النبرة الحدية بعض الشيء في حديثي، ولكن هذا لأن الأمر بلغ حدا لا يمكن السكوت والتغاضي معه، إذ لا بد من أن تفهم هذه الفكرة وتصل هذه الصورة بشكل جلي واضح لدعيّي الثقافة والكتابة هؤلاء، فيحجموا ويستحييوا مما هم فاعلون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.