شعار قسم مدونات

معركة حران والذاكرة المفقودة

blogs - knight
بنى الصليبيون بمجرد وصولهم إلى الشرق الإسلامي في نهايات القرن الحادي عشر استراتيجيتيهم على احتلال مجموعة من المدن والمناطق الرئيسية الحساسة، والتي تضمن لهم البقاء لأطول فترة ممكنة في بلاد المسلمين، فعمدوا إلى السيطرة على ساحل الشام المطل على البحر الأبيض المتوسط حتى يبقى باب التواصل مع أوروبا مفتوحاً.

كما أن احتلالهم لبعض المدن كان يهدف لتحقيق الفصل بين التجمعات الإسلامية والمدن الكبرى التي لو بقيت متصلةً جغرافياً لشكلت خطراً رئيسياً على الصليبين. لذلك، اجتهد الصليبيون بكل قوة على احتلال الرها (حاليا اورفه في جنوب تركيا) عام 1098م، وبذلك حصل الصليبيون على عمق استراتيجي في الأراض الإسلامية يحمي مدنهم في الساحل، علاوة على إيجاد سد أمام أي محاولة للوحدة بين العراق والشام.

لقد شكلت هذه الحرب صدمة كبيرة للصليبين، فقد وقع القادة الرئيسيون للحملة الصليبية على حران وهما بلدوين الثاني أمير الرها وجوسلين أمير تل باشر في أسر المسلمين.

ومن الواضح أن الصليبين لم يكفهم ذلك، فتوجهوا بعد ذلك لاحتلال إنطاكيا 1098م حتى يضمنوا رابطاً جغرافيا بين أورفه والساحل، وقطعاً للتواصل بين سلاجقة الشام وسلاجقة الروم. لكن الانتصارات لأي أمة لا تبقى بلا نهاية وكذلك الهزائم، ففي السابع من شهر مايو/أيار الجاري، حلت الذكرى السنوية لمعركة هامة من المعارك التي خاضها المسلمون ضد الصليبين.

لكن للأسف، كغيرها من المعارك، مرت ذكراها مرور الكرام ولم يُلتفت إليها على أهميتها. وتبرز أهمية هذه المعركة والتي حصلت في 07/05/1104م باعتبارها أول معركة رئيسية وحاسمة ضد جيوش الحملة الصليبية الأولى، خاصة بعد الهزائم الكبرى التي حلت بالمسلمين وتتوجت بسقوط بيت المقدس. إضافة إلى أنها جسدت الوحدة بين مكونات المجتمع الإسلامي من عرب وأكراد وسلاجقة وأراتقة أتراك.

وتعود أسباب المعركة إلى محاولة الصليبين في إمارتي الرها وإنطاكيا مد نفوذهم على المزيد من أراضي المسلمين، مستغلين ضعف المسلمين وتشرذمهم، إضافة إلى تحقيق الاستراتيجيات الصليبية القائمة على ترسيخ الانفصال الجغرافي بين المسلمين في الشام من جهة والمسلمين في العراق وفارس من جهة أخرى. وكان لا بد لتحقيق ذلك من احتلال حران.

وفعلاً تحركت جيوش الصليبين نحو حران ونصبت عليها حصاراً كان لا بد في النهاية أن تسقط المدينة بسببه، خاصة وأن احتمالية قدوم جيش من المسلمين لفك الحصار عن حران كان ضئيلاً بسبب حالة الضعف التي كانت تعتري القوى الإسلامية المتنابذة. لكن الأمور سارت بخلاف ما تشتهي القوى الصليبية وتتمناه، فقد شعر قائدان مسلمان على وجه الخصوص بالخطر الداهم، وبالمصيبة الكبيرة التي ستحل بالمسلمين إذا ما سقطت حران بأيدي الصليبين.

وهذان القائدان هما سُقمان بن أرتق حاكم مارين وجَكَرمِش حاكم الموصل. لكن علينا في هذا المقام أن نذكر أن من المفارقات العجيبة أن هذين القائدين كانا قبل هذه المعركة في خلاف كبير وصراع واضح. وكان كل واحدٍ منهم يعدُ العدة لمهاجمة الآخر. لكن من الواضح أن مصلحة الأمة تجلت عند الاثنين، خاصة أن سُقمان كان الحاكم على مدينة بيت المقدس قبل ما يقارب الخمسة أعوام، أي قبل أن تسقط بيد الفاطميين الذي حكموا المدينة شهوراً قليلة قبل أن تسقط بيد الصليبين عام 1099م.

ولذلك، كان سُقمان يعلم أن سقوط حران معناه تكريس سلطة الصليبين كما حصل في الرها وإنطاكيا من قبل، وعقبة جديدة في طريق تحرير بيت المقدس. أما جَكَرمِش فكان يعلم أن احتلال حران سوف يجعل من الموصل لقمة سهلة وسائغة للصليبين، لذلك، فهم الرجلان أن تناسي الخلاف وتحويل البوصلة باتجاه المصلحة العامة هو ما سوف يحقق لهما النصر.

من المفارقات العجيبة أن هذين القائدين كانا قبل هذه المعركة في خلاف كبير وصراع واضح. وكان كل واحدٍ منهم يعدُ العدة لمهاجمة الآخر. لكن من الواضح أن مصلحة الأمة تجلت عند الاثنين.

وفعلاً، فقد تواصل الرجلان وأظهر كلٌ منهما الرغبة في الوحدة لقتال الصليبين. وبهذا، شكلت هذه الوحدة الخطوة المعنوية الأولى للانتصار على جيوش الغزاة، التي لم تظن يوماً أنها ستُهزم على أيدي المسلمين خاصة في تلك المرحلة المبكرة من تاريخ الحملات الصليبية. لقد التقى الجيشان على ضفاف نهر البليخ القريب من حران. وانتصرت جيوش الوحدة الإسلامية على الجيوش الصليبية، تلك الجيوش الإسلامية التي ضمت العربي والتركي والكردي أعلنتها بوضح أن النصر لا يأتي مع الفرقة والتشرذم.

لقد شكلت هذه الحرب صدمة كبيرة للصليبين، فقد وقع القادة الرئيسيون للحملة الصليبية على حران وهما بلدوين الثاني أمير الرها وجوسلين أمير تل باشر في أسر المسلمين، كما أن انتصار المسلمين في هذه المعركة قد عمل على الحد من توسع الصليبين في الأراضي الإسلامية، علاوة على أنها شكلت مصيبة كبيرة لأنطاكيا حيث نجح السلاجقة المسلمون في استرجاع مساحات شاسعة من الأرضي التي سقطت بأيدي الصليبين عند وصولهم للشرق قبل هذه المعركة بسنوات.
 

علينا أن نعي أهمية معركة حران ودورها التاريخي، ويجب علينا تعليم أبنائنا أهمية الوحدة في تحقيق الانتصار ودور الفرقة في ترسيخ الهزيمة.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.