شعار قسم مدونات

الربيع العربي.. بين الحتمية التاريخية والثورات المضادة

مدونات - الرببع العربي

إن كثيرًا من الكتابات الصحفية تعمل جاهدة في ظل الظرفية القاسية التي تمر بها دول الربيع العربي من خلال مجموعة من الوسائل على تشويه صورة ثورته معللين ذلك بما آلت إليه من تفتت داخلي واقتتال طائفي، وتحاول أن تسوق على أن أي حراك من أجل المطالبة برفع الظلم سيؤدي إلى نتيجة واحدة وحتمية وهي الفتنة والخراب، وهم بذلك يعملون بقصد أو من دونه على ترسيخ الاستبداد السياسي داخل بلدانهم، متناسيين أن الثورة حتمية تاريخية ميزت مراحل التاريخ البشري، اختلفت في كيفية قيامها ومدى تغييرها بل حتى في غاياتها.

بالنسبة إلى عالمنا العربي إذا أردنا فهم واقع ربيعه وثوراته، يجب أن نعود إلى التاريخ لفض الغبار قليلا عن ثورات الشعوب عبر التاريخ الإنساني ضد الأنظمة المستبدة، ودراستها لمعرفة محركها الأساسي ومجراها. وبدون الرجوع إلى التاريخ لن يستطيع أي إنسان أن يستنبط العلل لفهم ذلك. فلا ريب أننا سنجد خيطًا رابطًا بينهما "الثورات" ألا وهو الاندفاع والثورة ضد الظلم والاستبداد، إذ أن تطلع المظلم إلى العدل والمستضعف إلى الرحمة والمقهور إلى الحرية أمور فطرية تتطلع لها النفس البشرية دائما وأبدا.

القول بأن الربيع العربي أو أن الثورات العربية هي ثورات انكسرت وغابت غير صحيح علميًا؛ لأن الثورات العربية هي فعل في الزمن، هي مؤشر على أن نقطة اللاعودة انتهت وأن الانفجار حصل وجدار الخوف والفساد الذي صنعه الاستبداد انهار وانتهى.

إذا أخذنا على سبيل المثال ومن أجل تقريب الصورة أكثر نموذج الثورة الفرنسية عام (1789) التي كانت بداية شرارتها مع فقراء سان كلود، لتصل بعد ذلك إلى الفئات الأخرى المكونة للشعب الفرنسي، من المثقفين والأدباء والسياسيين الذين طوقوا السجن الذي كانوا يتواجد فيه خيرة أبناء الشعب الفرنسي من مناضلين وكتاب الرأي الحر المسمى "سجن الباستيل" كمرحلة أولى من انطلاق ثورة الفرنسيين. بعد ذلك دخلت الثورة في أعمال القتل والجرائم أي "مرحلة الثورة المضادة" عندما هاجمتها الملكيات الأوروبية، ليعتلي -بعد مدة- نابليون بونابرت العرش بحيث أقام نفسه إمبراطورًا على فرنسا وادعى أنه حامي ثورتها، ثم عادت الثورة وانتصرت ثم قامت الملكية بعدها، ثم عادت الثورة إلى أن استقرت الجمهورية وانتصر الثوار.

إن الثورة ليست "خاتم شبيك لبيك.. شبيك لبيك" بين عشية وضحاها تأتي بين يديك، وإنما سيرورة تدخل في منعرجات ومنعطفات بطريقة حلزونية، تتقدم وتبدو أحيانا كأنها تتراجع وتندحر كما يحدث للثورات العربية وبلدان الربيع العربي في وقتنا الحاضر مثلا.

إن أهم ما يمكن أن نعيه من دراسة تاريخ الثورات الإنسانية هو أن الثورة ليست لحظة، ففي سوريا مثلا، هذه ليست ثورة يوم أو شهر أو عام وإنما ثورة جيل وهي من أعظم ثورات الجيل العربي الجديد. فالحرب اليوم في سوريا شيء طبيعي، نتيجة تدخل القوى الأجنبية فيها. فإذا رجعنا مجددا إلى الثورة الفرنسية، نستشف بأنها شهدت في إحدى مراحلها هجوم الملكيات الأوروبية على رجالها، بحيث سارت حرب إلى جانب الثورة وأصبحت ثورة مضادة لثورة الفقراء. نفس الأمر يحدث الآن في سورية. ففي سورية خرج الشعب على طول 5 أشهر يرفع شعارات الكرامة والحرية دون أن يُسمع طلقة نارية واحدة من جانبه إلى أن دخلت داعش وإيران وروسيا لتشويهها وإبعادها عن مسارها وهدفها المنشود "الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية".
 

ما يثير الحسرة أكثر هو قول بعض النخب الذين يصفون الثورات العربية اليوم أنها إرهاب وخراب ودمار وحروب أهلية، والظاهر أنهم مغيبون للتاريخ تماما، إذ من الملاحظ أنهم لم يقرؤوا التاريخ بعد ولن يتجرؤوا على قراءته، باعتبارهم سوقًا للأفكار الاستبدادية، لأن الطاغية العربي قد أنتج نخبًا أيديولوجية قومية علمانية، وإسلامية، ويسارية، وشيوعية مزيفة، وهي صمام أمان الاستبداد الذي سيعيد إنتاجه إن هو سقط، وهذا ما حدث أمام أم أعيننا ويحدث اليوم بالدول الثائرة كتونس ومصر، تعيد إنتاج الاستبداد لأنه شرط وجودها وبدونه لن تستطيع أن تتنفس أو تعيش أو أن تتاجر في دكاكينها الأيديولوجية التي تسترزق منها. فكل من يصف الثورات والانتفاضات العربية بالبلطجة هو أبعد من أن يكون مدافعًا عن كرامة المواطن، إنه يفتقد في كتاباته أهم شرط في التحليل السياسي والاجتماعي وهو حس المقاربة التاريخية، ناهيك عن الضمير الأخلاقي المتضامن مع المظلوم الذي يرى في التمرد الخلاص لأجياله.

هل الثورات العربية انكسرت؟
إن القول بأن الربيع العربي أو أن الثورات العربية هي ثورات انكسرت وغابت غير صحيح علميًا، لماذ؟ لأن الثورات العربية هي فعل في الزمن، هي مؤشر على أن نقطة اللاعودة انتهت وأن الانفجار حصل وجدار الخوف والفساد الذي صنعه الاستبداد انهار وانتهى، وهذا الصمت الحالي الذي تعيشه شعوب الربيع العربي هو ما يسمى بالسكون ما قبل العاصفة، فما دامت شروط الانفجار (الثورات) قائمة فإن الانفجار قادم لا محالة، فالربيع العربي لم يأت هنا تاريخيًا لينجز شيئًا وإنما جاء ليكشف المشهد وهذا ما نجح فيه، يعني أن الوعي الجديد القائم بعد الربيع العربي كاشف لكل المشهد تمامًا: دور كل الفواعل التاريخية فيه، دور الطغاة، دور النخب، دور إعلام العار، دور النهب، المقاومة والممانعة (حزب الله – سوريا – إيران)، كل هذا انكشف، وهذا الوعي هو أهم مكسب للربيع العربي.

تخطيط الغرب لتقسيم المقسم وحلم إسرائيل الكبير، فإنه لم يتوقف يوما وهم يعلمون تاريخ زوال دولتهم أكثر منا، ولكنهم يعتقدون أنهم بمكرهم يستطيعون تغيير القدر لكن الحاكم الذى يستطيع أن يغير العالم هو الله.

إن ثورات الربيع العربي من منظورنا كانت عفوية وليس صناعة كما يدعي البعض لان العالم العربي مقهور وينتظر أي لحظة للانفجار، فليس غريبا هذا الوضع ولكن الغريب أننا لم نعي أن أمريكا وإسرائيل مع الأنظمة العميلة وقفت في وجه الربيع العربي بشتى الوسائل ونجحت حتى الآن نوعا ما في إحباطه. فالربيع الحقيقي لم يبدأ بعد، هذه مجرد بداية وتحريك للمزبلة التي فاح ريحها والأيام والسنين القادمة ستفجر الوضع وستنقلب الطاولة على جميع من تآمروا على هذه الثورات العفوية المباركة.

أما بالنسبة لتخطيط الغرب لتقسيم المقسم وحلم إسرائيل الكبير، فإنه لم يتوقف يوما وهم يعلمون تاريخ زوال دولتهم أكثر منا، ولكنهم يعتقدون أنهم بمكرهم يستطيعون تغيير القدر لكن الحاكم الذى يستطيع أن يغير العالم هو الله، والمؤسف أننا كمسلمين نعطي الغرب حجما أكبر من حجمهم متعللين بنظرية المؤامرة ومتناسيين قوتنا. إضافة إلى أنه وجب التساؤل إذا ما أخذنا رأي البعض الذي ينحو إلى أطروحة أن الربيع العربي صناعة غربية لتفكيك دول العالم العربي. ما هي الدول التي قامت بها ثورة وانقسمت وتفككت؟ السودان تفكك هل كان به ثورة؟ العراق تفكك إلى كردستان فيدرالية هل العراق كانت بها ثورة؟

عموما، إن هذه الثورات ليست ثورة نخب وليست ثورة أحزاب ولو كانت كذلك لباعوا واشتروا مع النخب العربية وسلموها، هذه ثورة مسحوقين معطلين محرومين مهمشين، فعندما أحس العالم الإمبريالي بخطرها خلق لها داعش وحالش من أجل تحريفها عن مسارها، لأن الديمقراطية في العالم العربي لن تخدم مصالحهم الاستراتيجية في المنطقة، بل الديكتاتورية هي من تحمي لهم البترول والغاز والفوسفات وما يجري في البحار.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.