شعار قسم مدونات

كنائس للبيع

blogs - كنيسة
تابعت قبل أيام على التلفزيون الألماني تقريرا حول وضع الكنائس في أوروبا، يقول التقرير إن في أوروبا حوالي 60 ألف كنيسة ودير، لكن عدد الكنائس التي تشهد فعلا ممارسة دينية لا يتجاوز 4 آلاف كنيسة فقط. هذا يعني أن هناك حوالي 56 ألف كنيسة لم تعد مكانا للعبادة بسبب عدم وجود مصلين.
رصد التقرير أيضا ظاهرة بيع عدد من الكنائس لمستثمرين قاموا بتحويلها لفنادق أو صالات عرض للفنون التشكيلية أو لأنشطة تجارية أخرى، وأشار التقرير إلى أن هولندا هي من أكبر الدول الأوروبية التي تشهد هذه الظاهرة.

الأوروبيون يجدون في المسيحية “سلاما داخليا”، لكنهم لا يجدون فيها الاطمئنان الروحي والعقلي، إذ تبقى الأسئلة الكبرى التي تؤرق الإنسان بلا إجابات عندهم. رغم أن الفلسفة ساهمت بشكل كبير في تشكيل الوعي والعقل الجمعي لديهم، وخلصتهم من كثير من الخرافات والجهل، إلا أنها تبقى “فلسفة”، أي منظومة فكرية مرتبطة بالعقل فقط ولا تبالي بالروح أو الجسد، ولا تلبي حاجات الإنسان المتنوعة كما يقوم الدين بذلك. وحتى الفلسفات “العاطفية” كالوجودية مثلا لم تتمكن من إرواء عطش الإنسان الأوروبي للعاطفة والاطمئنان الروحي، فلا تزال أوروبا غارقة باللادينية.

واللادينية موقف متأرجح ومضطرب، فلا هو إلحاد كامل ولا هو تدين كامل، يسميه هيدجر “الإلحاد القلق”، لأن صاحبه يعيش في حالة اضطراب وقلق وحيرة ولا يشعر بالراحة النفسية بسبب أرق الأسئلة الكبرى المتعلقة بمعنى الحياة والمصير وما بعد الموت. تشير بعض الدراسات العلمية إلى أن ثلثي المجتمع الغربي “لا دينيون”، يؤمنون بالله ويعتقدون أنه خالق الكون لكنهم لا يهتمون بذلك ولا يمارسون أي نشاط ديني.

المسلمون ومنذ فتح باب القتال على السلطة بعد وفاة الرسول (ص) انحرفوا بالدين واستخدموه كوسيلة لتعزيز الحكم حتى اليوم، باستثناء تجربة “علم الكلام” الرائدة والتي ازدهرت فيها مدارس الفكر في بغداد والكوفة والبصرة تحديدا.

هذه “اللامبالاة” سببها عدم وجود منظومة فكرية متجانسة تقدم لهم تصورات واضحة حول العالم الأرضي والعالم الآخر، فالمسيحية واليهودية مليئة بتناقضات لا يمكن الجمع بينها، فيبقى الإنسان حائرا معلقا بلا قرار، وكثير منهم يتحول للبوذية أو الإسلام بشكل خاص لأنه يجد فيها إجابات واضحة لأسئلة ومواضيع تشكل أسرارا ومعضلات في المسيحية واليهودية (أتحدث عن الإسلام غير الطائفي بالتأكيد).

الفلسفة الوجودية جاءت كردة فعل على حالة التيه والضياع الروحي التي أصابت أوروبا منذ العصور الوسطى وانتهاء بالحروب العالمية كما يقول مؤرخو الفلسفة حيث يعتبرونها “استجابة” طبيعية لملء فراغ روحي خلفته الكنيسة ببيع الأوهام على مدى قرون. لكن من يقرأ أدبيات الفلسفة الوجودية لا يجد فيها شيء من هذا على الاطلاق، بل على العكس يجد أنها فلسفة كرست اليأس والحزن حتى أصبحت السبب الأول للانتحار في أوروبا. نجد هذا بوضوح مع أعمال كيركيجارد وسارتر وهيدجر وألبير كامو على وجه الخصوص. كما أن القضايا التي تناولتها الوجودية بوصفها قضايا عاطفية وفتحا جديدا يختلف عن قضايا الفلسفة الكلاسيكية (التي تهتم فقط بالوجود والمعرفة والأخلاق) هي قضايا هامشية جدا، كالضحك والتلصص من ثقب الباب أو الغناء في دورات المياه، ولذلك انتهت الوجودية بموت هؤلاء الفلاسفة، فهذه القضايا لا تسد حاجة الإنسان الأوروبي للعرفان.

في الإسلام منظومة قيمية متكاملة تلبي حاجات الفرد الروحية والعقلية والجسدية بصورة واقعية وبلا تكلف، إلا أن عناية المسلمين بالفكر قليلة، فالمسلمون ومنذ فتح باب القتال على السلطة بعد وفاة الرسول (ص) انحرفوا بالدين واستخدموه كوسيلة لتعزيز الحكم حتى اليوم، باستثناء تجربة “علم الكلام” الرائدة والتي ازدهرت فيها مدارس الفكر في بغداد والكوفة والبصرة تحديدا، ولكن تم وأد هذه البذرة العقلية الدينية واختزال الدين بشكليات هامشية حتى غدا جسد دون روح.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.