شعار قسم مدونات

قناية السيسي القومية

blogs - عبد الفتاح
"كنت أخادع الأيام حتى أعيش كما أريد" – جمال عبد الناصر
هذه العبارة كانت بمثابة تعويذة يضعها الناصريون أسفل صورة عبد الناصر، حتى وإن كانت مُعلَّقة على باب سجن أو سور مقبرة، لنتجاهل العبارة الآن ونعترف بفصاحة عبدالناصر الذي كان صريحاً أكثر مما يجب في هذه المقولة التي ينسبها إليه أنصاره. إذاً القُدوة القائد الناصري -الثائر- الأول كان يُخادع الأيام، و"الخليفة" السيسي كما يحلو لمؤيديه أن يصفوه، لا بد وأنه يقتفي أثر قائده ولن نجزم بذلك الآن.

هاجس الدولة المُستهدفة كيف تم استثماره؟
دائماً وأبداً في مناخ الاستبداد لا توجد سوي منطقتين للحركة "منطقة آمنة" تجمع "سَدَنة العسكر" و"منطقة خطرة" تستدعي دفع ضريبة يتحملها الثوار في الميادين والمعتقلين في السجون، ومنطقة أخرى هُلامية لا تُرى بالعين المُجردة، يقبع فيها المُواطن العادي أو "المخلوق التعيس" كما يُسميه جون ستيوارت ميل الذي يُمكنه أن يكون مؤيداً بالنهار ومُعارضاً بالليل، الذي يتم استخدامه لإحداث فوضى أو صناعة حشد مزيف كصوت قابل للتأطير والقولبة، وإن دعت الحاجة لتوريطه سيُحاسب على مشاريب الثورة مع الثوار حتى وإن لم يكن على دينهم.

فالسيسي نجح في القضاء على مفهوم "الشعب" الذي هو قوام أي "دولة" بجانب "الحكومة والسيادة والأرض" فحَوَّل الجيش إلى بندقية بالإيجار، وحوّل الشعب إلى جماهير، جمهور يُصفق وجمهور يلعن وجمهور يُصفق أحياناً ويلعن أحياناً أخرى، لكنه لن يتحرك لأن المعارضة تكلفتها باهظه، لهذا سَهُل عليهم تطويع هذه الشريحة، فاستسلم المُواطن المُغفل لروايتهم للأحداث بأن ثمة إرهاب يتربص بمصر، فتجمعوا حول السيسي رغباً بالتفويض ورهباً خشيّة البطش، حتى انتهي الحال بمصر إلى حكومة فاشية تتمثل في "شخص" لا يثق بأجهزته ولا بمجتمعه ومُجتمع مُعاق كَفَر بالحكومة ولم يَعُد يُعَوِّل عليها في حل أزمة أو تحقيق إنجاز.

مازال السيسي يُخادع الأيام مُراهناً على الوقت والذاكرة، ويسعى للحفاظ على صورة الدولة بشكل قابل للعرض المحلي والعالمي فقط ليتفرغ لتسديد فواتيره الأمنية ومعاركه التي كسرت ظهره في سيناء.

في كتابه الموسوعي "تضخيم الدولة العربية" يقول د. نزيه أيوبي:
يعتقد بعض الحكام العرب أن التلبّس بمظهر الليبرالية والعلمانية السياسية من شأنه أن يشكّل ضماناً أكبر للمستثمرين والحكومات الغربية المانحة للمساعدات، ويعطي انطباعاً بأن دخولهم مجال الاستثمار يعني دخولهم إلى رحاب الديموقراطية، ولكن مستثمري الخارج ومتعهدي الداخل يشرعون في شق طريق إلى داخل جهاز الدولة، وإقامة مجموعات ضغط لا علاقة لها بالديموقراطية، لأنها لا تنشئ تمييزاً بين الخاص والعام، بل تنشأ بدافع اقتصادي احتكاري يمتصّ مؤسسات الدولة ويحوّلها إلى إقطاعات خاصة بأصحاب المال والجنرالات، وبذلك لا تنشأ ليبرالية سياسية تؤدّي إلى الديموقراطية، وإنما تؤدّي فقط إلى الحفاظ على الأنظمة المُستبدة التي تختبئ وراء، وهم الاستثمار والمشاريع القومية وكذبة الحرب على الإرهاب للتخفيف من اللوم الذي يُكال لها بسبب فشلها الذريع أمنياً واقتصادياً.

هذه الأنظمة عادة ما تلجأ إلى سياسة "المظاهر" و"الديمقراطية التجميلية" لتُعطي انطباعاً أنها مُستقرة ثم تَعمَد إلى الحشد النوعي ظنّا منها أنها ستستثير إعجاب الدول الغربية العظمى، وبالتالي ستزيد الأخيرة من استثماراتها ومساعداتها، وأورد "أيوبي" أن هذه الفلسفة تم التعامل بها سابقاً في كلٍ من البرازيل والبرتغال في القرن التاسع عشر بدافع التباهي والقول "من أجل أن يراها الإنجليز"، هذا ما فعله ويفعله السيسي، وأقرب مثال هو فنكوش "قناة السويس الجديدة" وما تلاها، والتي تم افتتاحها بعد أن هيّأ الرأي العام للمشروع، وضخّم من جدواه دون أية خطط ولا تقارير توضيحية، فحرّضهم على المشاركة فيه ثم أوعَز إلى أذرعته الدينية أن تُسبح بحمد المشروع وتُقَدِسُ له.

هذا ما دأب السيسي على فعله حتى طلّ علينا أول أمس، يعقد الأيمان برحليه في حال أن لفظه الشعب، مُتهتهاً بجدلية "القناية أم البحر" وكلما كذب تحرّى الكذب أكثر، فعل السيسي كل هذا لمصر التي لا أدري "هتبقى قد الدنيا" أم "احنا فقرا" من أجل أن يراها المواطن المُغَفَل فيفرح، ويراها الأجنبي فيظن أنها مُستقرة وجديرة بالدعم.

سيبقي هذا سؤالاً مُتردداً في أذهان كل المصريين الحالمين منهم من جَهَر بِه يوماً ومازال يدفع ثمن ذلك، ومنهم من كَتَمه خشية البَطش ويوماً ما سيدفع ثمناً باهظاً، وبين هذين اليومين أنا وأنت ننتظر.

هل عرفتم الآن ما إذا كانت مصر تفرح أم تُمارس الزيف على نفسها؟!
هل عرفتم ما إذا كانت مصر قد الدنيا أم أنها صارت أضحوكة الدنيا؟
هل أدركتم أن ثمة فارق بين مَن يبني دولة وبين مَن يبيع الوهم؟

ما زال السيسي يُخادع الأيام مُراهناً على الوقت والذاكرة، ويسعى للحفاظ على صورة الدولة بشكل قابل للعرض المحلي والعالمي فقط ليتفرغ لتسديد فواتيره الأمنية ومعاركه التي كسرت ظهره في سيناء، فهو المُكَلَّف بحماية الحديقة الخلفية للكيان الصهيوني وتفكيك ألغام الخطورة عليه. إذاً بقاء صورة الدولة حتى وإن كانت هشة ضعيفة هو الضمانة الوحيدة والغطاء الذي يحتمي به السيسي ويستطيع أن يمارس قمعه وبطشه من خلاله، ولن يمانع أبداً أن يُطبق سياسة الأرض المحروقة كي "يصل إلى ما يُريدُه" ولا يعنيه تنمية أو نهضة حقيقية، فالاستثمارات التي يُخفي وراءها فشله وخيبته لن تُحدِث رخاءً أو تنمية، لأن التنمية قرينة الاستقرار والاستقرار يكون مع العَدل والظُلم مؤذن بخراب العُمران. لكننا نحن المصريون "أهل خِفة وفرح وغفلة عن العواقب" كما وَصَفَنا ابن خلدون.

ذات يوم هَمَس الفيلسوف الألماني "نيكوس كازانتزاكيس" عبر روايته "زوربا" إلى رئيسه قائلاً:
دع الناس مطمئنين أيها الرئيس لا تفتح أعينهم وإذا فتحت أعينهم، فما الذي سيرونه؟ بؤسهم! دعهم إذن مستمرين في أحلامهم! إلا إذا كان لديك عندما يفتحون أعينهم، عالم أفضل من عالم الظلمات الذي يعيشون فيه الآن.. ألديك هذا العالم؟!

"ألديك هذا العالم؟!"
سيبقي هذا سؤالاً مُتردداً في أذهان كل المصريين الحالمين منهم من جَهَر بِه يوماً ومازال يدفع ثمن ذلك، ومنهم من كَتَمه خشية البَطش ويوماً ما سيدفع ثمناً باهظاً، وبين هذين اليومين أنا وأنت ننتظر، وكلكم يدرك أن السيسي شخص فاشي كاذب عويل لن يبني دولة ولكنكم قوم تستهبلون.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.