ما إن تولد هذه الأنثى في مجتمعنا الشرقي الذي يرى أن قوانين قبيلته هي قوانين الطبيعة المثلى التي لا خطأ فيها ولا انحراف، حتى تندب الأم حظها العاثر وتحزن ويحزن معها كل الأهالي وحتى الجيران كأنهم في مأتم مهيب لميت عظيم الشأن، في جلسة صامتة وهمهمات خافتة. ويسودُ وجه الأب من الصدمة المفزعة ويعتريه الغضب العارم لشعوره بأن رجولته قد تم الغدر بها وإذلالها، لذا فهو يقضي يومه ذاك وتوالي الأيام والأسابيع اللاحقة بالتفكير فقط متى سوف يحظى بمضاجعة سريعة مع زوجته لتجلب له ذلك الصبي المبارك، المرغوب والمعتمد عليه، الذي سيحمل مشعل اسمه العظيم أمام القبيلة ويحمي حيواناته المنوية (المميزة عن خلق الله) من التلف والاندثار الأبدي، ويصون شرفهم -الوهمي- الكامن والمختوم على أجساد إناث الأسرة جميعهن… أما الفتاة الشرقية -الضحية الأولى لهذا الوهم- فهي تؤمن في أعماقها بأنها وصمة عار على جبين والدها، لعنة جرداء حلت على خيمة أو جدران بيت أهلها. وعليها أن تدفع الثمن بطيب خاطر. طوال حياتها تكون خاضعة كالجارية، مسلمة تماماً بفكرة أن الله الرحيم قد خلقها لأجل أن تعيش لغيرها ساهرة على راحته، أن تكون مطأطئة الرأس خانعة، لا يسمع لها صوت ولا أنين إلا: نعم وسوف أفعل ذلك. محتم عليها طاعة الكبار (الصالح منهم والغاوي)، وقبول ما يختارونه لها، مخافة تكسير تلك القيم الشرقية البالية وتجنباً لنعتها بالفتاة غير الصالحة والمؤدبة التي سوف تستحق جحيم الآخرة بعدما أن استحقت جحيم الدنيا على أيدي الذكور.
لماذا لا تزال هذه الأفكار المسمومة والاعتقادات المريضة التي تتعلق بالمرأة حاضرة بهذه القوة في مجتمعاتنا الشرقية في زمان الإنترنت والانفتاح الإنساني واحتكاك الحضارات مع بعضها؟! |
ما زالت المرأة الشرقية -إلى هذه الساعة- تتعرض للظلم والعنف بشت أنواعه، والاستغلال والضغوطات الهائلة، التي تفوق قدرتها الجسدية والعقلية والنفسية، وتعامل وكأنها ما زالت تعيش في زمن الجاهلية وتعصبها المريضة! وهذا ما تشهد عليه مئات الزيارات التي تقوم بها النساء (باختلاف أعمارهن) لشيوخ الرقية الشرعية (الدجالين منهم والمنصتين البارعين أو الخبراء بالأعشاب)، وكذلك مواعيد العيادات الخاصة بالعلاج النفسي في بعض المدن المتحضرة.
إن التعصب القبائلي (الشرقي) المتمسك بألوهية الذكور كونه مكتمل العقل والدين، صاحب القرار وزمام الأمور، يرى أن المرأة عبارة عن: فكرة نكرة لا آية مقدسة، عار يُدينك لا شرف يرفعك، مفعول بها لا فاعلة، وعاء للإنجاب لا منجبة للإنسان، جارية المنزل والفراش معا، سلعة يجوز بيعها أو شراؤها كيفما يرى ومتى ما أراد ولي أمرها. إن رضخت وسكتت فهي راضية مقتنعة! وإن تكلمت وناقشت فهي متمردة وجب قطع لسانها! وإن داعبت أنامل يديها الرقيقة قلب أحمر صغير رسمته خفيةً في زاوية دفترها الخاص فهي منحرفة الأخلاق وجب جلدها وتأديبها! وإن نبض قلبها كعصفور الكناري الصغير لشاب ما فهي أصبحت أقرب لعاهرة خسيسة وجب نحر عنقها واجتثاث وجودها من الحياة!
لا يريدون -عمداً- أن يروها كإنسان مثلهم، لها كائنيتها الرقيقة والقوية في آن واحد، لها مشاعرها تلك الخاصة بها، التي يحق الشعور بها والتعبير عنها دون خوف أو اتهام جائر من صغار العقول ومرضى القلوب.. كائن يحمل طاقة معينة من الاحتمال والصبر. إنسانة خلقها الله لتكون سيدة الاحتواء والحنان، توأم الجمال والنور وابنة الحب والعشق، لا أن تكون كائنة منبوذة ومكروهة من الوجود الذي خلقت فيه، لا أن تتربى على أن تحتقر بنات جنسها، لا أن تؤمن أنها مجرد فتنة جسد ومدخل نار، لا أن تكبر وهي مهمشة العقل ومكسورة القلب، مهانة ذليلة النفس بين أهلها وناسها… إن السؤال الذي يكرر نفسه منذ القدم للآن داخل كل رجل عاقل ذو ضمير حي، وكل امرأة تقدر نفسها، لماذا لا تزال هذه الأفكار المسمومة والاعتقادات المريضة التي تتعلق بالمرأة حاضرة بهذه القوة في مجتمعاتنا الشرقية في زمان الإنترنت والانفتاح الإنساني واحتكاك الحضارات مع بعضها؟! لماذا لم تستطع هذه المجتمعات المتعصبة حتى هذه اللحظة التخلص منها، أو حتى التقليل من حدتها وأثرها؟ ما الذي يدعم ويُمكن ويُشجع تلك الممارسات الجاهلة والظالمة مع المرأة من الاستمرار والاستقرار طوال كل هذه العصور والقرون في مجتمعاتنا؟!
هناك ثلاثة جوانب عايشتها وأدرك يقيناً أنها تلعب الدور الكبير في استمرار ظلم الأنثى أو المرأة في مجتمعنا الشرقي (العربي)، وسوف أتحدث عنها جميعاً من وجهة نظري البسيطة، في التدوينة أو التدوينات القادمة – إن شاء الله- راجية منه النجاح في صياغتها بشكل يليق بهذه القضية الموجعة التي تؤثر بشكل كبير علينا خاصة نحن النساء باعتبارنا كبش الفداء داخل مجتمع ولدنا وكبرنا فيه وكذلك في رؤيتنا لأنفسنا داخل الحياة نفسها.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.