شعار قسم مدونات

الدولة الإسلامية الهجينة (1)

blogs - آية قرآنية
الهجينُ في كلام العرب يأتي على معانٍ، ولكنه هنا بمعنى الذي ليس له نسبٌ نقيٌّ بل هو خليطٌ، والفرسُ الهجينُ غيرُ العتيق، وقد هَجَا حسانُ بن ثابت – بعد إسلامه – أبا سفيان في جاهليته يريدُ النيلَ منه فقال له:
وأنتَ هجينٌ نِيطَ في آل هاشمٍ *** كما نِيطَ خلف الراكبِ القدَحُ الفرْدُ

والوصفُ الذي صوّره حسان يَصدق على أطروحة "الدولة الإسلامية" التي أُلحقت بالفكر الإسلامي السياسي وهي خليطٌ غيرُ متجانس الأصول ولا مُتسق البناء ولا مُستقر الأركان، ثم تَحَولت إلى "عقيدة" إيمانية من دون تَكَلُّف مراجعتها وتصحيح وضعها أو التنظير لها.

انصرف "الإسلام السياسي" عن طرائق التقليد الإسلامي في التعليم الذي يتمحور حول نظام المتون والشروح والحواشي، ولكنه حاكاهُ – في الطرائق دون المضمون – حين جعلَ من كتابات الشيخ حسن البنا مَتنًا انشغل أتباعه بشرحه والبناء عليه. كان البنّا أولَ مَن استعمل مصطلح "الدولة الإسلامية" بمعنى المشروع الذي يتم السعي إليه، ولكنه كثيرًا ما كان يستعمل تعبير "الحكومة الإسلامية" التي يعتبرها ركنًا من أركان الإسلام يجب تحقيقه. و"الحكومة الإسلامية" هي التي يكون أعضاؤها "مسلمين يؤدون الفرائض الإسلامية، … وهي المنفّذة لأحكام الإسلام وتعاليمه.

فالحكومة إسلاميةٌ من حيث ديانةُ الأشخاص والتزامُهم الأخلاقَ الإسلامية وتنفيذَ الأحكام الشرعية"، ويرى البنا أن استعادة الخلافة "يسبقها قيام حكومات إسلامية في البلاد الإسلامية"، ويقول: إن الإخوان المسلمين "يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها في رأس مناهجهم، وهم – مع هذا – يعتقدون أن ذلك يحتاج إلى كثير من التمهيدات". فالدولة عند البنا تكاد تكون هي الحكومة لا فرقَ، وهي المؤتَمَنة على تنفيذ الإسلام وشرائعه، وهي التي يكونُ إسلامها بإسلام أعضائها.

ليس من العسير أن نُدرك ظلّ الخلافة في تَصَور البنا للدولة (أو الحكومة) التي هي جزءٌ مرحليّ من الخلافة وسبيلٌ إليها. وعلى نهج البنّا مشى عبد القادر عودة الذي تحدث عن "الحكومة الإسلامية ووظيفتها ومميزاتها"، وأن الحكومة الإسلامية هي التي "يؤمن أفرادها جميعًا بالمبادئ التي يقوم عليها الحكم ويحرصون على العمل بها"، وأن "الحكومة نائبة عن الجماعة"، و"الخليفة هو ممثل الحكومة الأول" (لنتذكر بيان "الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين" في أن "النظام الرئاسي أقرب إلى روح الإسلام").

تعريف دولتهم الإسلامية بالعودة إلى إرث الدولة الحديثة ومنجزات الفقه الدستوري الحديث لا يُمكّنهم من إثبات التفاضل بين الدولة الإسلامية المُفتَرَضَة وغيرها من الدول غير الإسلامية.

عقَد "عودة" فصلاً خاصًّا سماه "نشأة الدولة الإسلامية"، ولكنه حين عرّف الخلافة قال: "الخليفة هو رئيس الدولة الإسلامية الأعلى"! لم ينشغل عودة ولا مَنْ بعده بتحديد مفهوم الحكومة والدولة ولا الفرق بينها وبين الخلافة؛ فالخلافة هي الدولة، والدولة هي الخلافة، ولذلك يذكر عودة أن إحدى مميزات "الحكومة الإسلامية" أنها "حكومة خلافة أو إمامة"، ويوضح أنها في نصوص القرآن لا يُقصد منها إلا الرئاسة بمعناها العام، وليس الدلالة على نظام معين من أنظمة الحكم، "فنظام الحكم الوحيد الذي يعرفه الإسلام هو الحكم القائم على دعامتين: إحداهما طاعة أمر الله واجتناب نواهيه، والثانية الشورى … فإذا قام الحكم على هاتين الدعامتين فهو حكم إسلامي خالص وليسمَّ بعد ذلك بالخلافة أو الإمامة أو المُلْك، فكل هذه التسميات تسميات صحيحة لا غبار عليها"!

ثمة اضطرابٌ إذن في تحديد الحكومة والدولة والخلافة بل والمُلْك أيضًا؛ فلا حرج لديهم في التسميات والأشكال ما دامت "الدولة الإسلامية" دولة عقيدة وتشريع، ألم يكتب أحدهم عن "الوظيفة العقدية في الدولة الإسلامية"؟، ومن الواضح أنهم نظروا إلى "الدولة" على أنها مجرد أداة يمكن أَسلمتها والمزاوجة بينها وبين الخلافة والإمامة، ولكن "عودة" لا يلبث أن يُجهِد نفسه في إثبات أن "الدولة الإسلامية" تكونت بحكم الفقه وبحكم الواقع؛ بالاستناد إلى أن أركان الدولة – طبقًا للفقه الدستوري والإداري (الغربيّ!)- لا تَزيد عن أربعة هي: وجود شعب، والاستقلال السياسي، ووجود إقليم تعيش عليه الجماعة بصفة مستمرة، والسلطان أو السيادة، وهي جميعًا – كما يقول – متوافرةٌ في "الوحدة التي ألفها المسلمون برئاسة النبي صلى الله عليه وسلم"!

لم يكن "عودة" وحدَه الذي قام بهذه الإسقاطات والتحويرات في المفاهيم وأشكال الحكم والسلطة، فقد سلك محمد يوسف موسى مسلكه، واستعرض تعريفات الدولة في القانون الدستوري والقانون الدولي؛ لإثبات "أن الإسلام دين ودولة معًا؛ بكل ما تحتمل كلمة دولة من معنى ومدلول"، وكذلك فعل محمد المبارك وآخرون.

هذه المقايَسة على "الدولة الحديثة" كانت هي ما يُحرك تلك الكتابات حول "الدولة الإسلامية" أو "النظام السياسي الإسلامي" في ظل أجواء ما بعد سقوط الخلافة والصراع مع الفكرة العلمانية، ولكن لم يُدرك هؤلاء المُحَوِّرون لغايات أيديولوجية واصطراعية المشكلاتِ الناجمةَ عن تلك المقايَسَة والتي تتلخص في الآتي:

(1) ضبابية تصوراتهم عن الخلافة الدولة، والدولة الخلافة، فحتى خلافة النبي صلى الله عليه وسلم كانت – بالنسبة لهم – دولةً بالمعنى الحديث، وما ذلك إلا لأنهم سلّموا بتَعالي نموذج الدولة الحديث على كل ما سواه، فلما تَوَهموا أن نفيَه عن الكيان الذي أنشاه الرسول هو نقصٌ يُنَزّه عنه أو قصورٌ لا تليق نسبته إلى الإسلام ارتكبوا مثل هذا التحوير للمفاهيم، وهو تحويرٌ ناتج عن قصور في فهم الدولة الحديثة ومنظومة الخلافة معًا، وعن نزعةٍ شكلانية تقف عند حدود الأشكال بالرغم من ادعائها أن العبرة بالمسميات لا بالأسماء!

(2) استعارتهم لمفهوم الدولة اقتضت منهم التسليمَ بالتقسيم السياسي للبلاد الإسلامية الذي نتج عن الإرث الاستعماري بعد سقوط الخلافة، ومن ثَمَّ كرّسوا فكرة مركزية الغرب؛ رغم أنهم كانوا يطرحون مشروعهم في مواجهته وللاستعلاء عليه!

حرَص إسلاميو القرن الماضي على الاستعلاء بفكرة الدولة الإسلامية التي هي دولة عقيدة وتشريع وأخلاق لا تهتم بالشكل والتسميات ما دامت تنفذ تعاليم الإسلام، ولذلك أُولعوا بفكرة تَفَرد الدولة الإسلامية.

(3) تعريف دولتهم "الإسلامية" بالعودة إلى إرث "الدولة الحديثة" ومنجزات الفقه الدستوري الحديث لا يُمكّنهم من إثبات التفاضل بين "الدولة الإسلامية" المُفتَرَضَة وغيرها من الدول "غير الإسلامية"؛ إذا كانت هي بعينها قد عرفها الإسلام قبل الغرب، ولذلك بَدَوا شديدي الحرص على إبراز تَمَيز الفكرة دون الشكل والنظام الذي لم ينشغلوا ببحثه أصلاً ولا حاجة إلى ذلك ما دام هو هذا الذي نشاهده في الدولة الحديثة!

ولكنهم حين طبقوا معايير الفقه الدستوري الحديث على "الدولة الإسلامية" لم يَتَنبهوا إلى أن المبادئ الإسلامية تَحظر عمليات الاصطفاء القومي والعرقي التي تؤدي إلى هيمنة واستبداد جماعة قومية أو عرقية على الجماعات الأخرى، كما تحظر عمليات التنقية العقدية التي تؤدي إلى إكراه أتباع الديانات الأخرى على الدخول في دين الجماعة المهيمنة أو طردهم، وهو خلاف التاريخ الإسلامي والموروث الفقهي نفسه.

إن هذه المقارنات التي دأَبَ عليها التفكير الإسلامي الحركيّ هيّنة بالنظر إلى الاستعارة التي قام بها أبو الأعلى المودودي حين وصف "الدولة الإسلامية" بأنها "دولة شاملة محيطة بالحياة الإنسانية بأسرها، وتطبع كل فرع من فروع الحياة الإنسانية بطابع نظريتها الخلُقية الخاصة وبرنامجها الإصلاحي الخاص؛ فليس لأحد أن يقوم في وجهها ويستثني أمرًا من أموره قائلاً: إن هذا أمر شخصي لكيلا تتعرض له الدولة … هي تشبه الحكومات الفاشية والشيوعية بعض الشبه" على حد قوله، وذلك قبل أن تتحول فكرة "الدولة الشمولية" إلى سُبَّة من منظور الليبرالية الغربية، ولذلك لجأ الإسلاميون بعد ذلك إلى وصف نظامهم بالشامل بدل "الشمولي" للإيحاء بهذا الفرق غير المؤثر!

ثلاثةُ عوامل أدت إلى مثل هذه التوليفات الهجينة: الأول: الصراع الأيديولوجي بين الإسلاميين والعلمانيين، والثاني: شعور الإسلاميين الحركيين بضرورة إيجاد نظرية إسلامية في "الدولة" تميزهم عن المشروعين الآخرين أو ما سُمي في السبعينيات بالحل الرأسمالي والحل الاشتراكي، والعامل الثالث: الإحساس بأن الأدبيات الإسلامية التي تتحدث عن الخلافة أو الإمامة، لا تَفي – وحدها – بمتطلبات بناء نظرية إسلامية في الدولة بالمفهوم الحديث. ولذلك تحدث محمد يوسف موسى في تمهيد كتابه عن الخلافة وتعريفاتها ووظائفها، ثم راح يتحدث في المبحث الأول عن "الإسلام والدولة" وتعريفات الدولة عند القانونيين، من دون أي تفسير يوضح لنا سر هذا الانتقال من الخلافة إلى الدولة!

حرَص إسلاميو القرن الماضي على الاستعلاء بفكرة "الدولة الإسلامية" التي هي دولة عقيدة وتشريع وأخلاق لا تهتم بالشكل والتسميات ما دامت تنفذ تعاليم الإسلام، ولذلك أُولعوا بفكرة تَفَرد "الدولة الإسلامية" عن كل ما سواها من دول عرفتها البشرية، يقول عبد القادر عودة: "إن أسلوب الإسلام في الحكم هو خير ما عرفه العالم، وإن كل نظريات الشورى الوضعية ليست شيئًا يُذكَر بجانب نظرية الإسلام" التي تتصف بثلاث صفات لا توجد في غيرها، "فهي أولاً حكومة قرآنية، وهي ثانيًا حكومة شورى، وهي ثالثًا حكومة خلافة أو إمامة"، ويقول محمد يوسف موسى: "نظام الحكم الإسلامي نظام فريد لا مثيل له؛ فهو النظام الإسلامي وكفى".

لم تكن المسألة بالنسبة للإخوان المسلمين فكرةَ دولة؛ بقدر ما كانت مشروعًا حركيًّا يأخذ عنوان "الدولة الإسلامية"، أي أن العمل كان يَتِم على فكرة الدولة التي تُتوّج المشروع.

ونحوه يقرر الشيخ يوسف القرضاوي أن "الدولة في الإسلام ليست صورة من الدول التي عرفها العالم قبل الإسلام أو بعده، إنها دولة متميزة عن كل ما سواها من الدول بأهدافها ومناهجها ومقوماتها وخصائصها"، فهي دولة مدنية مرجعها الإسلام، وعالمية ولا مانع أن تبدأ بدولة إقليمية في قطر معين، ودولةٌ شرعية دستورية، ودولة شورية، ودولة هداية، ودولة لحماية الضعفاء، ودولة الحقوق والحريات، ودولة المبادئ والأخلاق. في حين يخلص محمد المبارك إلى القول: إن الدولة الإسلامية تتصف بأنها دولة عقائدية (عقيدة وفكرة ونظم وتشريع) وأخلاقية إنسانية، وحضارية، ثابتة الأسس متطورة الأشكال تبعًا لاختلاف الأحوال وتَبَدل الأطوار الاجتماعية الثقافية".

من الصعب جدًّا بعد هذه التوصيفات الإيمانية والأيديولوجية إدراك الفارق بين فكرة "المدنية" (بالمفهوم الليبرالي الغربي أساسًا) وفكرة الدولة العقائدية، أو بين هذه "الدولة الإسلامية" و"الدولة الدينية" التي تحكم بأمر الله، وبالمناسبة كان تقي الدين النبهاني لا يرى بأسًا في استعمال تعبير "الدولة الدينية" قبل أن يتحول إلى مشكلة في الصراع مع العلمانيين!

وإذا كان هذا حالَ إسلاميي القرن العشرين، فإن إسلاميي القرن الحادي والعشرين تَبَدلت أحوالهم فباتوا مشغوفين بالتطابق مع "الدولة الحديثة" نفسها، ولذلك آلمهم أن يذكّرهم وائل حلاق المسيحي بفكرة التميز والتمايز، وبالبعد الأخلاقي الذي تَحَدث عنه سلَفهم على أنه مميِّزٌ لدولتهم، ولكنهم تناسَوه وهم يخوضون معارك الاندماج في جهاز الدولة القائمة ومحاولة الاستيلاء عليها، ومَن وصل منهم إلى السلطة تَخلّى عن فكرة تطبيق الشريعة وصار ينادي بتونس أولاً؛ تحت إكراهات الواقع والدولة التي عرفوها بالمباشرة فلم يجدوها كما تَخَيلوا لعقود مضت!

لم تكن المسألة بالنسبة للإخوان المسلمين فكرةَ دولة؛ بقدر ما كانت مشروعًا حركيًّا يأخذ عنوان "الدولة الإسلامية"، أي أن العمل كان يَتِم على فكرة الدولة التي تُتوّج المشروع، ثم بعد الثورات تلاشى المشروع وبقيت فكرة الدولة التي تبقى كما هي ولكن يحكمها مسلمون أو يشاركون في حكمها، وهو ما يفسر الحال الذي آل إليه الوضع في تونس مثلاً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.