شعار قسم مدونات

غواص في بحر النغم التراثي الأمازيغي

bogs الفنان محمد رويشة

سنة 2012 أعلن الشعب المغربي لأول مرة الحداد على مطرب التراث المغربي الأمازيغي محمد رويشة، وكان حداد رويشة ذو طابع خاص، حيث خصصت جميع القنوات التلفزيونية المغربي – فضائية وأرضية- بثها بالكامل ولمدة ثلاثة أيام لإذاعة أغاني رويشة واستعراض مسيرته الفنية، المشهد نفسه انطبع في جميع مقاهي البلاد، الحديث لم ينقطع لمدة أسبوع كامل عن رويشة، وأغانيه وأشعاره وألحانه، ولم يكن الأمر غريب على الشعب المغربي، ولم لا وهو الذي امتع الشعب المغربي من طنجة في أقصى الشمال، إلى الكويرة في أقصى جنوب المغرب بكلماته العذبة وألحانه الشعبية الأفريقية الأيقاع التي تمس القلب، سواء كان عروبي أو ريافي – أمازيغي- أو صحراوي -سكان الصحراء المغربية -، فرويشة رائد الأغنية الأمازيغية الرصينة وسفير الماضي لدى الحاضر، والغواص في بحر النغم التراثي الشعبي كما لم يفعل أحدا من جيله أو من الأجيال السابقة على مدى تاريخ الأغنية المغربية الممتد إلى بعيد البعيد عبر السنين.

تاريخ من العطاء
ولد محمد رويشة عام 1950 بمدينة الخنيفرة "قلب الأطلس المتوسط، ودرس في كتاب المدينة، وحفظ القرآن في سن مبكر، والتحق بالمدرسة الابتدائية في مدينته لكنه لم يستمر في التعليم، وغادر المدرسة بسبب الظروف المادية المتعثرة لأسرته، واتجه للعزف على آلة "الوتر"، وهي آلة وترية قديمة اشتهرت لدى الأمازيغ تشبه آلة الجيتار أو العود لكنها مصنوعة من الخشب وجلد الماعز والأوتار من شعر الحصان المجدول، وأتقن رويشة العزف على "الوتر"، وهو في سن الثانية عشر، واقتصر عمله على تأدية الأغاني الأمازيغية القديمة في الأعراس والمناسبات المحلية بمدينة الخنيفرة -جنوب غرب المغرب-، ونجح في جذب الناس له ولفنه التراثي القديم، حيث احترف أداء أغاني رواد الفن الأمازيغي الشعبي مثل حمو اليزيد، وبرع في تقديم الأناشيد الدينية باللغة الأمازيغية، وفي عام 1964 – كان قد بلغ الرابعة عشر-، شاهده محمد العلوي لاعب فريق شباب الخنيفرة لكرة القدم السابق، وأعجب بصوته وأداؤه، فشجعه على الاحتراف، وقام بالتوسط له للانضمام إلى الإذاعة الوطنية المغربية الناطقة بالأمازيغية، وقدم رويشة خلالها العديد من الأناشيد والموشحات الدينية، والأغاني الوطنية، والأغاني العاطفية.
 

ركز رويشة على الغناء في المسرح وفي مختلف الأمسيات والفعاليات الوطنية والشعبية، وفي عام 1980، كرر رويشة محاولة تسجيل ألبوم غنائي باللغة الأمازيغية واللهجة المغربية، ونجح الألبوم إلى حد ما

التحاق رويشة بالإذاعة مكنه من الانخراط في الصالونات الأدبية والثقافية والجلسات الفنية، ومخالطة كبار المطربين والملحنين والأدباء والشعراء والمثقفين، فكتب الشعر الغنائي لنفسه، ولحنه في قالب متناغم مع المقام الأطلسي المشهور أنذاك بالاعتماد على "الربع نوته"، كما قدم مزيج رائع للموسيقى الأمازيغية مع المقامات الشرقية المشهورة أنذاك لكبار الملحنين العرب، مثل رياض السنباطي وكمال الطويل ومحمد عبد الوهاب وفريد الأطرش ومحمد فوزي، فقد كان فنا راقيا مثل مفاجأة للشعب المغربي، وفي نهاية العام 1964 التحق رويشة بمسرح محمد الخامس بالرباط، وأصبح يقدم فنه بشكل دائم للجمهور، حتى ذاع صيته وانتشر فنه بين الناس.

 

 وفي العام نفسه سجل أول البوم له في الإذاعة المغربية، لكنه لم يلقى النجاح المنشود، فركز رويشة على الغناء في المسرح وفي مختلف الأمسيات والفعاليات الوطنية والشعبية، وفي عام 1980، كرر رويشة محاولة تسجيل ألبوم غنائي باللغة الأمازيغية واللهجة المغربية، ونجح الألبوم إلى حد ما، وكان بعنوان "شحال من ليلة وعذاب"، واعتبر هذا الألبوم نقله في تاريخ رويشة، وعرفه على الجمهور العريض مع بداية انتشار الكاسيت أنذاك، وأصبح رويشة محجوزا للغناء في الأعراس والحفلات الكبرى على مدار أيام العام، فاكتسب لقب "مطرب الشعب"، وبعد شهور قليلة قدم الألبوم الثاني "اكي زروخ اسيدي ربي جود غيفي"، باللغة الأمازيغية، وبموسيقى حديثة بالنسبة لذلك الوقت، مزج فيها الموسيقى الأمازيغية بالشرقية بالغربية، فأنتج خليط لا مثيل له من قبل في المغرب، وزاد صوته العذب من نجاح الألبوم، وأصبح رويشة منذ ذلك التاريخ مطرب الشعب عن جدارة، وأصبح صوته يلعلع في كل دار ومقهى في المغرب.

بسبب ارتباط الجماهير برويشة، مثلت وفاته صدمه كبيرة بالنسبة لهم، وبعد إذاعة نبأ وفاته في يناير 2012، أعلن الشعب الحداد لأكثر من أسبوع، لكنه حداد من نوع خاص، أصبحت أغاني محمد رويشة تلعلع في كل السيارات والمقاهي والمنازل

تذكرة المرور للقلوب
ألبومات رويشة مثل، "شحال من ليلة وليلة"، و"يا مجمع المؤمنين"، و"قولوا لميمتي"، و"أيورينو"، و"الحبيبة بيني وبينك دارو الحدود"، وأخيرا ألبوم "إناس إناس"، وهو أشهر ألبوماته وأشهر أغانيه باللغة الأمازيغية، مثلت هذه الأغنية "تذكرة المرور"، لقلوب الشعب المغربي داخل المملكة المغربية أو دول المغرب العربي كله، ولا مكان لأي مطرب أمازيغي، أن يتجاهل أغاني رويشة ولا يقدمها في حفلاته، ومازالت أغاني رويشة الأعلى مبيعا وتداولا بين المطربين الشعبيين ومطربي التراث الأمازيغي، ولا يخلو حفل سواء عرس أو مناسبة وطنية أو دينية من طالبة الجماهير بأداء أغاني محمد رويشة، ولابد أن تكون الأغاني على أنغام آلة "الوتر"، وإلا رفضها الجماهير، لأن رويشة ربط أغانيه بالآلة الأمازيغية القديمة، ولا يمكن أن تؤدى اغانيه بدون آلة "الوتر"، لذلك ومنذ بداية مشوار رويشة أصبحت ألة الوتر ركنا اساسيا من أركان الفرق الأمازيغية الشعبية في المغرب، ولا يمكن أبدا تجاهلها.

وبسبب ارتباط الجماهير برويشة، مثلت وفاته صدمه كبيرة بالنسبة لهم، وبعد إذاعة نبأ وفاته في يناير 2012، أعلن الشعب الحداد لأكثر من أسبوع، لكنه حداد من نوع خاص، أصبحت أغاني محمد رويشة تلعلع في كل السيارات والمقاهي والمنازل، وخصص البث التلفزيوني بالكامل للحديث عن رويشة، كان الحديث في المغرب منحصر حول رويشة وفنه، كانت جنازته أشبه بمظاهرة حب وعرفان لا مثيل لها في تاريخ المغرب، ودعته الجماهير بترديد أغانيه، ومازالوا حتى الأن يرددون أغانيه بقلوب ملؤها الشجن والحنين والعرفان لمشوار طويل عنوانه "غواص في بحر النغم التراثي الأمازيغي".

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.