شعار قسم مدونات

يا صاحبي السجن

blogs - معتقل
ما السجن إلا نتائج أفكار، هو أعظم من الأسوار والزنازين، وكم من طليق اليدين والجسد هو ينعم بالحياة فلا تراه إلا مكتوفا بأوهام نفسه بعيدا عن معني الحرية، يرضي بقليل الحياة ولا يقنع إلا بما يملأ فمه وبطنه ويرضي رغبته الزائلة!؟ ثم هو عما دون ذلك لا يُبالي.
 

إن شقاء الدُنيا ليس شقاء عدة ومتاع، وإنما شقاء نفسٍ تعيش في سراب الصورة، وهي عن المعني غائبة. كم من سجين يخشاه الناس وتتعطش لكلامه الآذان والارواح، وكم من طليق لا يُحرك ساكنا ولا يُسكِنُ مُتحركا، فأيهما الأسير؟! ولأن تعيش قويا مرفوع الرأس ولو لحظة، خير من أن تعيش ذليلا أبد الدهر، فإذا قُتلَت الحرية تكدّرت أنفاس الحياة وتمكن الوهن من نفوس الناس، وطاشت أحلامهم -إن كانت موجودة-، وربما ارتضوا أن يعيشوا في غبراء الناس حتي يسلموا من الأذى.

يا صاحبي السجن: إن الأسر الحقيقي هو فكرة وضيعة قيّدت صاحبها، وعزيمة خائرة سيطرت علي ربوع القلب، وذنب فيه إصرار، وجهل واستكبار. وإن الهزيمة الحقيقة ليست الضعف وإنما الاستسلام. يا صاحبي السجن: ليس كل مسجون غاصب أو غادر، وإنما السجن ابتلاء فيه تمحيص وإعداد، كأن الله يُبعدك عن الناس ويقول لك "ولتصنع علي عيني"، يختارك لعبادته، أن تختلي معه وتطلب منه، وتثق فيه، وتتيقن في موعوده ونصره "فلا تبتئس بما كانوا يعملون".
 

كل مكلوم لا يجد في صدره سعة إلا إذا استبشر بالله خيرا، وأيقن بانفراج الكُربة، ودنوّ النصر، فتراه ينظر في مرآة روحه ويُعيد ترتيب المشهد، فلا يلبَس إلا أن يتحول مشكاة نور وباعث أمل لكلِ من حوله.

إن الهزيمة هزيمة النفس، وإن الوهن في القلب هو أول بوادر الخذلان، وما انتصر قوم وفي قلوبهم الوهن، "فلا تهنوا ولا تحزنوا "، وكأنك في محنتك تتطلع إلي النصر، وكأنك خلف أسوار السجن تُبصر الحرية فلا تقبل بما دونها، فلا أقل من الحرية سوي الموت.

ثم إنك ربما تلاقيت بأحدهم فأخبرك عن السجن فقلت: "الحمد لله الذي نجانا"، وربما أخبرك آخر فاشتهيت السجن، ليس سجن السور والأغلال وإنما سجن الإعداد والتمحيص، سجنٌ لا يُشبه يد الجلاد ولا نظرة السجّان، سجن لا يحرمك الأحلام وإنما يحرمك الأيام، ولكن ربما بارك الله لك في سجنك فصنعك تاريخا في أذهان الناس، وكم من مجتهد تبلوّرت تجربته بثباته خلف القضبان؟ "الإمام أحمد في خلق القُرآن، سعيد بن جبير مع الحجاج، الشيخ ياسين مع الصهاينة" كان ثباتهم ثباتاً لمن بعدهم وزادا يتقوى عليه أهل العزائم.

إن كل مكلوم لا يجد في صدره سعة إلا إذا استبشر بالله خيرا، وأيقن بانفراج الكُربة، ودنوّ النصر، فتراه ينظر في مرآة روحه ويُعيد ترتيب المشهد، يُكمل دراستة، يحصل علي دبلومة أو درجة علمية، أو يُعيد النظر في معاني القرآن فتُشرق أنوار القرآن في قلبه وروحه فلا يلبَس إلا أن يتحول مشكاة نور وباعث أمل لكلِ من حوله.

إن كان مكلوماً علي أيامه المُنصرمة في غيابت السجن؛ إلا إنه مسرور بأحلامه التي بدأت في النمو، لا يأبه بالدنيا ولا يتعلق بالفاني وإنما يتعلق بالباقي، ويستمد منه القوة والعزة والغلبة، فتعيش قويا مسرورا بين الناس وتخفي هذا الهم القابع بين ضلوعك "الأشقياء في الدنيا كثير، وأعظمهم شقاء ذلك الحزين الصابر الذي قضت عليه ضرورة من ضروريات الحياة أن يهبط بآلامه وأحزانه إلى قرارة نفسه فيودعها هناك، ثم يغلق دونها باباً من الصمت والكتمان، ثم يصعد إلى الناس باش الوجه باسم الثغر متطلقاً متهللاً، كأنه لا يحمل بين جنبيه هماً ولا كمداً!"

وربما الخير كُل الخير يكمن بين ثنايا الشر الذي تحياه الآن، وهل تَلد الأم مولدا إلا بعد مخاض دام، فكيف للبشرية أن تلد أفكارا جديدة بدون عناء وصراعات، هي سُنة الله في كونه، فكما أن للخير رجاله فالشر أيضا له أعوان، وقانون البداية التدافع بين الفكرتين أما قانون النهاية "لا غالب إلا الله"، وسلام الله علي هذه النفوس القابعة خلف الأسوار، ظُلماً!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.