شعار قسم مدونات

هل نحن على أعتاب عثمنة جديدة؟

blogs - ottomans

بين إنكار الشعور القطري وقبوله
إن من أخطر ما يحصل في عالمنا الإسلامي هو تهديد زوال الشعور بحب الوطن، وقد يأتي شخص ويقول «إن ذهاب الوطنية القُطرية، والتي من الأصل هي كاذبة، وبنيت على الاستعمار، لا يفيد في شيء، وهي أصلًا وهمية مبنية على حدود سايكس_بيكوت، وذهابها فيه الفائدة للتجهيز للشعور العام الإسلامي للهوية الكليّة»، "فقد يكون لديه وجهة النظر"، ولكنه يجب أن يجيب على هذا التساؤلات، هل يا ترى من الأصل نجد الشعور الإسلامي عند عموم أهل الإسلام، حتى نجد تجهيزًا لما بعد مرحلة زوال الشعور الوطني القطري؟ وهل من الدقّة الفصل بين الشعورين؟ وهل أصلًا يعتبر الشعور الوطني القطري مخالفًا للإسلام؟ وكيف سيتم توجيه الجماهير للكل، وهم ممزقين في الجزء؟! إذًا وبلغة أخرى نحن أمام شكلين؛ أحدهما يناهض الوطنية القطرية، والآخر الذي يوافق عليها.
 

فكيف سيكون من الممكن أن تتشكل الوحدة الكبيرة مع وجود ضعف عام في الانتماء للأوطان المتشتتة أصلًا؟ وما هو مدى تكون اتحادٍ في الرؤية للشعوب، بالنظر إلى طبيعتها في الشرق الأوسط كحد مهم من العالم الإسلامي؟! فلا يمكن اعتبار وجود قوة خارجة عن المعقول تقوم بتجميع هذا الشتات، مع إيقاننا بأن أدوات النهوض الجمعي، هي ذاتها أدوات النهوض القطري، وإن لم تُحقق أدوات الثانية، فكيف ستأتي الأولى؟! فلا يبقى سوى خيار الانتقال من المجتمعات الصغيرة، وتجميعها كقطع الفسيفساء، وهو المعول عليه ولكن، كيف هي آلة ذلك؟!
 

الدولة ذات الوطنية النازلة المحققة لشروط مادية أعلى من دولة ذات وطنية نازلة بشروط مادية أقل، تشكل الاستقطاب الأكبر للمنطقة من حولها.

لكي نفهم الآلة التي ستركب هذا التشتت، نضيف إلى ما سبق القول بأنّ زوال الشعور الوطني الموضعي ناتج عن تفسخ في عرى الاقتصاد والاجتماع الذي يبني الرفاه والعز، مع غياب القدوة السليمة التي تقوم بإنشاء الشعور الجمعي، وتفشي الفقر والبطالة، هذا كله لا يعطينا مؤشرات إيجابيّة على حدوث انتصار لما بعد هذه الأزمة، ولكنه من المرجّح أن هنالك انقلابًا من المفترض أن يحصل نتيجة كل عوامل السوء تلك، سواء أكان انقلابًا للأحسن، أم حدوث المزيد من الأزمات، وهنا تسقط وجهة نظر القائلين بوجود انقلاب نحو حصول الانتماء الجمعي، نتيجة مناهضة الشعور بالانتماء القطري؛ خاصةً، مع وجود ما سبق من مشاكل.
 

إن التقسيم العام الذي كونته اتفاقيات الحرب العالمية الأولى في تشتيت الدول على جميع الأصعدة، وصنع وطنيات مختلفة متخالفة فيما بينها هو مرضنا، والدواء يجب أن يبدأ من هذه النقطة، وليس من قبيل المبالغة قولنا إن الطرف الذي يُعتبر مناهضًا للشعور الوطني القطري، هو من ضمن هذا المخطط التقسيمي، أي أن المخطط يسير في جهة التقسيم متعدد الأبعاد والذي يستمر في التقسيم، ومن يجعل نفسه في صف نبذ الشعور الوطني، هو يساهم في ذلك بالضرورة!
 

أنواع الوطنيات ضمن الدول القطرية
ذلك الطرح الأولي، وعلى الناحية المُشاهدة الواقعية، يمكن حصر التكوّن الوطني في دول العالم الإسلامي بواحد من اثنين وهذا التكوّن ليس بالمطلق، بل هو في السمة العامة في المجتمع، هما الوطنية النازلة، والأخرى الصاعدة.

ويمكننا تعريف الوطنية النازلة بأنها "تلك الوطنية التي تنزل من رأس الدولة على رعيتها، وتتمثل بالرعاية لهم، وتحقق لهم رفاههم، ويقابلها الرعية بالحفاظ على الوطن، اختياراً منهم" وأمّا الصاعدة فهي "تلك الوطنية التي تتكون في المواطنين، من غير وجود رعاية من الدولة، والتي تتكون بالعادة نتيجة الخوف على مكتسبات الحد الأدنى للحفاظ على الوطن"، فالنازلة تسدل ستار الأمن على مواطنيها، والصاعدة "تَصَّعَّدُ" في الولاء للقيادة، فالأولى سهلة التكوّن، ما أن توفرت شروطها المادية، والثانية تتكون بصعوبة وعند الظروف المعقدة، والأولى تتفشى في الدولة بسرعة، وتنشئ الشعب القوي، والذي يقوّي الدولة، والثانية تَنشئ الجبر في النفوس، ولا يمكن أن تكوّن المجتمع على أسس سليمة مما يجعله مهددًا بالتفكك!
 

وقبل الخوض في الواقع لابد من معرفة؛ ما إذا كان هنالك نظرة انجذابيه من قبل شعب ما تجاه أحد الدول في المحيط العالمي له، فهل من الممكن أن نقول أن لشعب ما القابلية للتعلم ممن يجاوره؟ أو أن يُجذب في هذا الفهم تجاه شعب آخر، وخصوصًا أن الثقافة المتكونة من الوطنية النازلة هي جمعية لكل ما هو نافع للإنسانية، وأنّها تُبنى على السهولة في الجريان بين الأقوام، بعكس الصاعدة، والتي ينفر منها أهلها، أو لا يتحملونها بالشكل اليسير، قبل أن ينفر منها ممن هم أصحاب وطن آخر!
 

مستوى التفاعل بين الوطنية النازلة والصاعدة

كل مشروع داخلي تنتهجه هذه الدولة -ذات الشروط الأكثر- في تكوين قوة الوطنية النازلة سيكون ذا استقطاب أعظم، ومن الأكيد أن أثره سينعكس على الدول في المنطقة ضمن مفهوم العولمة.

لذلك فإن نظرنا إلى العالم الإسلامي، فسنعرف كيفية تكوّن الوطنيات وفق هذا المنظور، فهنالك دول ذات وطنية صاعدة، مجتمعها مهدد، وأخرى نازلة تبني المجتمع، فالدولة التي بها الوطنية صاعدةٌ من الشعب إلى السلطة فهي مهددة بالسقوط، على الأقل كهوية، والدولة التي وطنيتها نازلة فإنها تعيش باستقرار مقبول، وهي مرشحة لأن تكون قوية، وفيما بعد قد تكوّن جذبًا لغيرها من الوطنيات الصاعدة، لتجعل من هويتها، وطنية نازلة على شعوب الدول ذات الوطنية الصاعدة، فتريح هذه الشعوب من سطوة الحكم المستبد الذي يجبرها على تكوين هوية، هي بالأصل غير حقيقية، ولم تبنَ على الأصول الصحيحة التي تجعل منها متينة لا تهتز، وذاك هو التفاعل بين الوطنيتين النازلة والصاعدة، وهي بالمفهوم الأقرب تتمثل بالهجرة.
 

من انجذاب الوطنيات إلى الاستقطاب فالعثمنة
والمستوى المتقدم من التفاعل، هو مستوى تفاعل الوطنيات النازلة مع بعضها، والذي يسبب حصوله استقطاب الوطنيات، فهو المستوى الأقوى، وهو مستوى وليس مرحلة، أي لا يمكن فصل هذا المستوى عمّا ذُكر سابقًا، فالعمل يتم بالتوازي، وليس على التوالي، فإن الدولة ذات الوطنية النازلة المحققة لشروط مادية أعلى من دولة ذات وطنية نازلة بشروط مادية أقل، تشكل الاستقطاب الأكبر للمنطقة من حولها، فكل مشروع داخلي تنتهجه هذه الدولة -ذات الشروط الأكثر- في تكوين قوة الوطنية النازلة سيكون ذا استقطاب أعظم، ومن الأكيد أن أثره سينعكس على الدول في المنطقة ضمن مفهوم العولمة، فالعلاقة هنا توفر للدولتان التعاضد، والدعم، ولا يشترط تكون الهجرة كما في العلاقة بين الوطنيتان النازلة والصاعدة.
 

إن هذه النظرة لا تعتمد على السياسة، بل على الثقافة، فهي واقع، أحد أشهر أمثلتها يتمثل في هجرة الكفاءات، ومن المنطق القول في هذه الهجرة، أن تكون إلى الدولة ذات الثقافة القريبة للدولة المهاجر منها، وإلا فسيتكون "استنزاف الكفاءات".
 

إننا لا يجب أن نصف كل تقارب بين الدول في العالم الإسلامي، بالعثمنة، إلا إن أيقنا تمامًا أنّ الصفة المتخصصة بالإسلام القريب هو الرابطة العثمانية التي انقرضت كآخر شعور إسلامي عام، كان مركزه، اسطنبول، وهي مجرد دليل لنا، وليس شرطًا أن تتخصص تلك الرابطة بسياسة معينة، ولا بمركز معين، إنما هي شعور عام، يصنع التكاتف، ويقوي العرى بين الشعوب، وقلب هذا الشعور هو تلك البقعة التي تتكتل بها اتحاد الوطنيات النازلة ذات الاستقطاب، والتي تدعم هذا الشعور عمليًّا، بالشكل السياسي المعاصر ووفق نظام حديث. 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.