شعار قسم مدونات

هل الحوار والثورة متضادان؟!

blogs - لا للحوار
في كثير من الأحيان تصبغ المواقف السياسية بصبغة أقرب إلى القدسية وتتحجر عقول النخب التي تنصب نفسها قائدة للأمة في التفاهم، حتى في الموقف السياسي القابل للتعديل والرؤى والنظر، ولكن دعونا ننظر بحالة استجلابية سريعة إلى حالة البشرية منذ فجرها وحتى الآن، واسمحوا لي أن تكون هذه الحالة الاستجلابية للأحداث بنظرة إسلامية، فعند التمعن في التاريخ البشري وحضاراته المتتالية ونماذج الرسل وصداماتهم مع أقوامهم من الجنس البشري، نجد أن كل هذا الصراع يتبلور في هيكلة واحدة لا تحيد ولا تتبدل، وهي أن صراع الخير متمثلاً في العدل والقيم الإنسانية والتي من ضمنها الحريات والحقوق، ضد الشر متمثلاً في الطغيان والظلم والفساد والاستكبار، هذان الخطان المتضادان في جوهريهما ومنبعيهما لا يلتقيان أبداً في منتصف طريق بل صدام وتدافع، وكذلك لو نظرنا إلى هذا الخضم، نجد أن فيه كذلك حوارات ومحاورات، ولكن تلك الحوارات والمحاورات لا تقصي في طياتها شرعية النضال من أجل القيم والعدل والوفاء بالمواثيق والعهود.

فكثير من النخب السياسية اليوم لا تستوعب هذا التنوع الحتمي، ولا يتسع عقلها لاستيعاب حقيقة أن الصدام نظام محتوم لا مفر منه إن طال زمانه أو قصر، ولذلك تهربت تلك النخب من دورها الحقيقي وهو إعداد القوة الفكرية والثقافية والمادية كذلك لمجابهة ذلك الطغيان الفاجر، وتهافتت نحو الارتماء في أحضانه ظنا أن الثورة ضد الحوار، ولو أخذنا النموذج السوداني الذي أنجز مخرجات الحوار الوطني فسنجد أن الوثيقة الوطنية تعج بالحريات وحق التعبير السلمي، ومع ذلك كله تخلق النخب فجوة مصطنعة بين الحوار وشرعية الثورة، ولذلك نقول ونكرر دوماً إنه لا خلاص لأمة من الاستبداد إلا بإعداد العدة من وعي وفكر جماهيري لاقتلاعه، ومن بعد ذلك قوة مادية يدافع بها الناس عن حرماتهم ودمائهم، لأن الاستبداد لا يواجه الناس بالسلم بل بالقمع، وحق الدفاع عن النفس يكفله الله قبل أن تكفله أي شريعة أو نظام أو قانون كما في قوله تعالى "أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير"

إن كل إصلاح غير ناجم عن إرادة الشعب الحرة، مآله إلى الفشل، وكل حرية لم ينلها الشعب بإرادته الكاملة، ودفع ثمنها دما ونفساً ومالاً، فهي حرية مغلفة لا تحوي في داخلها الحقيقة البشرية معنى الحرية.

إن على النخب أن تدرك أن من سنن الحياة ثنائيتها في التعامل مع الأحداث لا الأحادية المجحفة التي تستأصل مفعول الحراك البشري في أن يؤتي ثماره، وبإدراك تلك المعادلة عبر استقراء التاريخ البشري يتبين أنه لا خلاص من عقدة الاستبداد إلا بإعداد الأمة ذاتها، وليس فقط عن طريق مجموعة من النخب أياً كانت تلك النخب ذات حنكة في إدراة الصراع، وبالتالي فإن التغيير الحقيقي الذي يجب أن يسعى الساعون للتغيير إليه، هو تغيير العقول الجماهيرية واستنبات روح المقاومة فيها، وإزالة التخدير من جسدها الذي تراكم عن طريق الخوف الذي ولده الجهل بالحقوق والجهل بالحرمات.

والتغيير هو أن تدرك الجماهير أن الطغيان أكثر خوفاً ورعباً من تلك الصورة الذهنية التي تضعها هي بالنسبة له، وكما عبر عن ذلك عبد الرحمن الكواكبي قائلا "إن خوف المستبد من نقمة رعيته أكثر من خوفهم من بأسه، لأن خوفه ينشأ عن علمه بما يستحقه منهم، وخوفخم ناشئ عن جهل"، فما يخيف الجماهير إلا جهلهم بحقيقة الاستبداد وجهلهم بحقوقهم، وهو الشيء الوحيد أو الأول الذي يعيق انتفاضة الجماهير، لأن الجهل يولد الخوف.

تحدي الإصلاح الحقيقي: لا أحسب أن ينجح مصلحون وهم مصادمون لنواميس الكون وقانونه الساري إلى يوم القيامة، ومصادمة نواميس الكون انتحار لأي مشروع إصلاحي وتغييري، وبالتالي على المصلحين أن يدركوا هدفهم، وألا تصطادهم كماشات المستبدين فينخرطوا فيما كانوا يكافحون ضد وجوده، فكما أن للجسد البشري حماية من الفيروسات فلا بد لكل مصلح ذو فكرة أن يزود فكرته ومشروعه بالمناعة الكافية التي تحفظ ما بينه وبين الاستبداد، من تميز أخلاقي وقيمي.

وكما قلنا في بداية المقال، إن الحوار والثورة ليس متضادان كما يصور بعضهم، وأن الحوار لا ينفي الثورة، فالثورة مشروع أخلاقي كبير وكل حوار لا يصب في مصلحة الثورة فليس هذا حوار بل شيء آخر.

إن التحدي الحقيقي والذي يهرب منه أغلب الناس؛ هو الإصلاح الجماهيري بالتوعية واستنهاض جثث الأرواح الخاملة الخائفة التي ترتعد كلما سمعت عن الاستبداد شيئاً، فالجمهور هو محور التغيير، وتجاوزه يعني تجاوز الأمة المراد إصلاحها. إن كل إصلاح غير ناجم عن إرادة الشعب الحرة، مآله إلى الفشل، وكل حرية لم ينلها الشعب بإرادته الكاملة، ودفع ثمنها دما ونفساً ومالاً، فهي حرية مغلفة لا تحوي في داخلها الحقيقة البشرية معنى الحرية، ولا يصبر الاستبداد المتروي بالفساد على حرية حقيقة ثانية واحدة وسرعان ما يخلف عهده، وهنا تتبين الحقيقة التي لا مناص منها، وهي ألا حرية إلا باقتلاعه من جذوره بثورة عارمة قد تهيأت وعياً وعرفت هدفها ومشروعها بعد أن ترسخت قناعة الجماهير كل الجماهير بهذا المشروع، وحينها لا بد للاستبداد من "الاعتدال أو الاعتزال" بتعبير الكواكبي.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.