شعار قسم مدونات

و ما هم إلا بشر مثلنا

nazi-salute
لئن حثت الإنسانية الخطى نحو درب الرقي، إلا أنها لم تسلم من "إبر" شتى تخزها وتحول دون بلوغها لمراتب العقلانية السامية. ولعلّ أبرز هذه العوائق تقديس صاحب الفكرة على حساب الفكرة نفسها. إذ أن الشعوب والجماهير تتأثر بصفة سريعة ولا إرادية بما يملي عليها زعيمها فيغزو عقولها لتتجه إلى تحويل فلسفته إلى حركة وعمل. وقد استغلت هذه الصفة الجماهيرية من قبل عدة "زعماء أقوياء مُقنعين" مثل هتلر، موسيليني، كاسترو، ستالين ولينين وغيرهم.

وقد كان هؤلاء الزعماء يتمتعون بقدرة فذّة في التحكّم بالجماهير، واستطاعوا جمع آلاف التابعين المخلصين. إذ أنهم يُعدّون كزعماء عظماء ولكنهم يخدمون أنفسهم وتنقصهم صفة مهمة تجعل القائد إنسانا وهي حب تابعيهم واحترام إنسانيتهم ومثل هؤلاء القادة "الخطرين" يستطيعون جمع الحشود لمناصرتهم مناصرة مطلقة لا مراء فيها. إذ أن ما "يوحون" به لمؤيديهم، ترفعه الجماهير إلى عتبة المثالية. فمبالغة أي قوم أو أمة في تعظيم فرد من علمائها في أي مجال من المجالات أو حصر فهم الحقيقة المُطلقة في ثلة ممن كان لهم نصيب من التميز والشهرة إعلان بجهلها أصالة النقص البشري.

الفكرة تكسر القمقم الزماني والمكاني لتضرب بقوانين الطبيعة عرض الحائط. فهي خالدة، باقية لا يمحوها ماح، ولا تصادرها أنظمة، ولا يُسكتها رصاص، وما يلمسها تراب!

فالنقص البشري أرسخ من احتكار المعرفة المطلقة لشخص ما، وهذه المبالغة في التقديس ما تلبث أن تُصبح عبادة لتتحول الفكرة القابلة للدحض أو المبدأ القائم على النسبية إلى "دوغامية مطلقة". لنرى زعماء وقادة نُصّبوا رموزا لطائفة أو شعب تُناقض نفسها بنفسها في ذات الخطابات؛ لتُخلق الطرافة في تفاعل الجماهير التابعة لهم بالتأييد والتمجيد في كلتا حالتي التناقض.

ونقدا لهذه المفارقة قال نيلسون مانديلا "لا تنس أن القدّيس هو مخطئ يحاول أن يصير أفضل". فالتعظيم والتقديس ببساطة جهل بأن المعرفة الإنسانية عملية تراكمية باستمرار، وفي هذا المجال نستشهد بخطاب أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه على خلفية ردّ فعل المسلمين إبّان وفاة قائدهم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم "من كان يعبد محمد فإن محمدا قد مات. ومن كان يعبد الله فإن الله حيّ لا يموت. وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرّسل ".

إذ أن الفكرة تكسر القمقم الزماني والمكاني لتضرب بقوانين الطبيعة عرض الحائط. فهي خالدة، باقية لا يمحوها ماح، ولا تصادرها أنظمة، ولا يُسكتها رصاص، وما يلمسها تراب! ولنا في ذلك عدة أمثلة لدول انتشلت نفسها من تحت الأنقاض بتشبث شعوبها بمبادئهم وأفكارهم كألمانيا  ما بعد الحرب العالمية الثانية. يشهد التاريخ القديم منه والحديث أن كثيرا من القادة يميلون إلى أن يحيطوا أنفسهم بأتباع لا ينطقون ولا يعترضون.

هذه "المكنة" المتغلغلة في مجتمعات اليوم هي المهد الحاضن لعصر سرمدي من الظلمات، وهنا بالضبط تكمن المفارقة بين "الزعيم المطلق" و"القائد العادل" فالزعيم هو من يجعل مناصريه يضعون ثقتهم فيه. والقائد هو من يعيد لمناصريه ثقتهم بأنفسهم؛ فنجاح الأمم وازدهارها عائد إلى قدرتها على صناعة القادة، وبناء جيل حامل لنظرة ناقدة استشرافية يدقق في طائفة أفكار قائده وهوية مبادئه. وللحلم بقية… 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.