شعار قسم مدونات

لماذا استهداف المرأة التونسية؟

مدونات - امرأة تونسية في مطار الإمارات

لا يمكن إلا أن نحيي قرار الحكومة التونسية الحاسم والصارم القاضي بتعليق رحلات شركة الطيران الإماراتية من تونس وإليها ردا على قرار دولة الإمارات العربية المتحدة منعَ النساء التونسيات من الدخول إليها. كما لا يمكن إلا أن نحيي عاليا مطالبة الدولة التونسية رسميا باعتذار إماراتي رسمي وعلني، فهي بذلك ترسم شكلا جديدا من أشكال العلاقات الرسمية البينية العربية التي كانت تدار في الكواليس وتُبنى على "توافقات" و"ترضيات" غامضة تتم بين السياسيين الرسميين بعيدا عن الرأي العام.

 

كما يجب توجيه تحية حارة للمواطن التونسي، الذي انتفض ضد ما اعتبره "إهانة" لكرامته ومسا بإحدى أهم الركائز التي قام عليها المجتمع التونسي الحديث، ألا وهي المكتسبات التي راكمتها المرأة التونسية بفضل نضالها المضني على مر عقود طويلة من الزمن. وفي المقابل، فإن القرار الإماراتي، حتى لو افترضنا أنه بُني على معطيات أمنية تبقى غير مؤكدة، فإن أقل ما يمكن أن يقال عنه إنه كان استفزازيا ومتسرعا، لأن مثل هذه المعلومات الأمنية، التي تبقى مجرد احتمالات، كان يجب أن تعالج سريا وبتنسيق بين الأجهزة الأمنية في البلدين.

 

هذا التسرع الإماراتي، إذا لم يكن بالفعل مقصودا أو على الأقل غيرَ مدروس، فهو غير مسؤول، أساء إلى المرأة التونسية وإلى الشعب التونسي وإلى كل نساء الشعوب العربية غير الخليجية اللواتي تتم إهانتهن في صمت وكل يوم بأشكال مختلفة عندما يتقدمن لطلب تأشيرات دخول إلى إحدى الدول العربية ويتم سؤالهن عن "الكفيل" أو "المرافق الشرعي"، وأحيانا توجه لهن أسئلة حميمية عن حياتهن الخاصة!

 

صحيح أن تونس لا تتوفر على ناطحات سحاب ولا على صناديق استثمارية عابرة للقارات، وهي في أمسّ الحاجة إلى كل دعم يأتيها من الخارج، لكنها غنية بشبابها ونسائها
صحيح أن تونس لا تتوفر على ناطحات سحاب ولا على صناديق استثمارية عابرة للقارات، وهي في أمسّ الحاجة إلى كل دعم يأتيها من الخارج، لكنها غنية بشبابها ونسائها
 

إن قرار دولة الإمارات ليس فقط عنصريا وتمييزيا ضد المرأة، كما وصفته بذلك جمعيات تونسية، وإنما هو قرار مهين يعبّر عن عقلية عربية جاهلية مازالت تحتقر المرأة وتنظر إليها "ناقصة عقل ودين"؛ بل أكثر من ذلك فهو يستهدف شعبا بكامله، لأن عقلية "العربي البدوي الجاهلي" تعرف أنها عندما تهين المرأة فهي في الوقت نفسه تهين الرجل إذا لم يتحرك للدفاع عمّا تعتبره هذه العقلية المتخلفة "عِرضه" وشرفه".

 

لقدٍ استهدف القرار الإماراتي هذه المرة العنوان الخطأ لأن الغاية منه هو بعث رسالة "احتقار" و"تأديب" إلى الشعب الذي أشعل ثورة الربيع العربي التي أربكت حسابات دول خليجية بعينها، خاصة الإمارات والسعودية، لكن من اتخذوه لم يقرؤوا جيدا تاريخ الثورة التونسية القصير، فهذه الثورة قامت ضد "الحكرة"، أي الاحتقار الذي تعرض له بائع الخضر محمد البوعزيزي، الذي فضّل أن يضرم النار في جسده على أن يتجرع في صمت الإهانة التي تعرّض لها.

 

ومن شارك في هذه الثورة وحماها ودافع عنها في أحلك لحظاتها ورسم خطها النضالي الذي جعلها متوقدة هي المرأة التونسية، بنضالها اليومي ضد كل أشكال التمييز والحيف أمام كل التمثلات العتيقة التي كانت ومازالت ترفض أن تعتبر المرأة نصفَ المجتمع الفاعل وشريكة حقيقية في بناء حاضره وتصور مستقبله.

 

ما يزعج حكام الإمارات والسعودية هو أن تنجح ثورات الربيع العربي التي كلفتها أموالا طائلة في سعيها لإجهاضها وتشويهها، وما يثير غضبهما وحنقهما ضد تونس هو ديمقراطيتها الفتية

ويأتي القرار الإماراتي في سياق "هجمة" إماراتية سعودية على كل رموز ثورات ربيع الشعوب العربية، فهاتان الدولتان سعتا بكل ما أوتيتا من قوة المال إلى تخريب ثورات "الربيع العربي" وتسليحها وتشويهها وإجهاضها والتدخل عسكريا وماديا وشن الحروب من أجل وقفها وتدميرها وتخويف الشعوب منها. وقد نجحت هذه الخطط الشيطانية في أكثر من دولة عربية شهدت ثورات شعبية، في البحرين أولا، وفي سوريا واليمن وليبيا ومصر.

 

وفي كل هذه الدول كانت كلفة إجهاض الثورات وتشويهها عالية، سواء من الناحية المادية أو الحربية، فلأول مرة في تاريخهما الحديث نسبيا تكبدت دولتا الإمارات والسعودية خسائر بشرية في حروب تخوضانها بعيدا عن أراضيهما وضد شعوب جارة و"شقيقة" لم ترفع السلاح ضدهما، وكلفتهما خسارات في الأرواح لم تشهدها هاتان الدولتان منذ تأسيسهما.

 

إن القرار الإماراتي لم يستهدف المرأة التونسية في حد ذاتها، بالرغم مما يرمز إليه عندما يخصها، وإنما يستهدف في العمق الثورة التونسية، أيقونة ثورات الشعوب العربية، كما أنه يستهدف التجربة التونسية، التي نجحت رغم كل المصاعب والعراقيل التي واجهتها أو وُضعت أمامها في أن تحافظ على بريق الأمل بأن الشعوب العربية تستحق أن تعيش بكرامة في ظل دولة ديمقراطية تحترم حرية شعبها وتحمي حقوق مواطنيها.

إن المستهدف الأول والأخير بالقرار الإماراتي هو تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس، التي ما زالت تبعث الأمل في نفوس الشعوب العربية، لذلك لا يمكن إلا أن نقول "شكرا" لحكام دولة الإمارات، لأن رد الفعل الرسمي التونسي على قرارهم أكد الحاجة إلى حكومات ديمقراطية تمثل الشعب وتتكلم باسمه وتدافع عن كرامته التي تضعها فوق كل المصالح والأولويات والعلاقات.

ما يخشاه حكام الإمارات اليوم، الذين يتصدرون الحرب ضد الديمقراطية في العالم العربي، هو انتقال
ما يخشاه حكام الإمارات اليوم، الذين يتصدرون الحرب ضد الديمقراطية في العالم العربي، هو انتقال "عدوى" الديمقراطية وانتشارها، لذلك يريدون استهدافها في عمق دارها وفي أحد أهم رموزها

 

ما يزعج حكام الإمارات والسعودية هو أن تنجح ثورات الربيع العربية التي كلفتها أموالا طائلة في سعيها إلى إجهاضها وتشويهها، وما يثير غضبهما وحنقهما ضد تونس هو ديمقراطيتها الفتية. فأشد ما تخشاه هاتان الدولتان، أكثر من سلاح إيران "النووي" المزعوم، هو سلاح الديمقراطية، التي تتلمس طريقها على أرض "ثورة الياسمين".

 

ما يخشاه حكام الإمارات اليوم، الذين يتصدرون الحرب ضد الديمقراطية في العالم العربي، هو انتقال "عدوى" الديمقراطية وانتشارها، لذلك يريدون استهدافها في عمق دارها وفي أحد أهم رموزها، لكنهم هذه المرة أخطؤوا العنوان والهدف فكان لقرارهم رد الفعل العكسي غير المنتظر، لأن مناعة المجتمع التونسي التي بناها عبر عقود أكبرُ من كل القرارات المستفزة والمتسرعة التي لم تفعل سوى إظهار معدنه الحقيقي والأصيل.

 

هل كان رد الفعل الرسمي التونسي سيكون بهذه الصلابة والصرامة لو لم تشهد تونس ثورتها؟ وهل كان يمكن أن يصدر الرد نفسُه من حكومات دول أخرى تتعرض نساءؤها للإهانة يوميا عند طلب تأشيرات دخول دول عربية أو في مطارات دول عربية توصف بـ"الشقيقة"؟!

 

صحيح أن تونس لا تتوفر على ناطحات سحاب ولا على صناديق استثمارية عابرة للقارات، وهي في أمسّ الحاجة إلى كل دعم يأتيها من الخارج، لكنها غنية بشبابها ونسائها، وهذا ما جعلها مهد ثورات ربيع الشعوب العربية ومستقبلها المنير والمضيء.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.