تتكوَّن رواية "ثلاثيَّة غرناطة" من أجزاء ثلاثة (غرناطة، ومريمة، والرحيل). في الفترة الزمنية الممتدة منذ سقوط غرناطة، بتوقيع معاهدة الاستسلام التي سلَّم بموجبها الأمير أبو عبد الله الصغير، آخرُ ملوك بني الأحمر غرناطة سنة 1492م، ويمتدُّ الجزء الأول حتى سنة1527 م بحرق سليمة، أما الجزء الثاني فيبدأ بعد مُضيِّ ما يقارب 15 عاماً من نهاية الجزء الأول، وينتهي سنة 1579م، بعد سحق ثورة البشرات الثانية، في حين يمتدُّ الجزء الثالث حتى سنة 1906م، وصدور قرار بترحيل العرب المنتصرين من الأندلس.
تنقلنا رضوى لذلك العصر الذي شهد سقوط غرناطة، آخر معاقل العرب والمسلمين في الأندلس، ولكن بتمرُّد على المألوف، فقد أخذت كاميرتها الخاصة بعيداً عن القصور، ودموع الأمير أبي عبد الله الصغير لحيِّ البيازين أحد أحياء غرناطة، حيث أبو جعفر الورّاقي الذي يرعى عائلة مكوَّنة -بالإضافة له- من زوجته أم جعفر، وأرملة ابنه جعفر "أم حسن"، وحفيديه سليمة وحسن، وطفل رعاه صغيراً، وعلَّمه حرفة التجليد "نعيم"، وينضمُّ لهذه الأسرة سعد المالقي الذي يرعاه، بعد أن فقد أسرته في مالقا، ليتزوَّج فيما بعد حفيدته سليمة التي يحكم عليها بالموت حرقاً، بعد اتهامها بممارسة السحر؛ نتيجة شغفها بقراءة الكتب، والاطِّلاع على ما خلَّفه الآباء والأجداد من علوم ومعارف أسهمت في علاج الكثيرين من أهل غرناطة، لكنها وبشغفها هذا خالفت القوانين التي منعت تداول الكتب العربية، وتموت سليمة حرقاً في الجزء الأول، ويموت زوجها كمداً عليها، كما مات جدُّها قهراً، حين شاهد الكتب والمؤلَّفات تُحرق في مشهد مؤثر أبدعت رضوى في وصفه، حتى تكاد تموت قهراً، وأنت تقرأ المشهد، فإن كنت من محبي الكتب فعليك أن تتخذ احتياطاتك، وأنت تمرُّ بين سطوره.
يشهد الجزء الأول موت أبي جعفر، وأم جعفر، وسليمة وسعد اللذين يتركان عائشة طفلة تتجاوز الثالثة بقليل، تتولى رعايتها مريمة وخالها، فتتزوج هشام وينجبان "علي" الذي تتولى جدته رعايته بعد وفاة أمه، وهروب والده. فيما كان حسن يحاول النأي بأفراد أسرته بعيداً عن كلِّ ما مِن شأنه أن يعرَّضهم للمحاكمة، حتى لو اقتضى الأمر أن يرفض إيواء أنسبائه. إلا أن زوجته مريمة تتألق في الجزء الثاني؛ شخصية شديدة اللماحية ترفض الرحيل، وتصرُّ على التمسُّك بعقيدتها، وهُويتها معتقدة أنَّ الظاهر لا يمكن أن يغير ممّا في القلب، وتحاول القبض على جمر الأمل، وتوظف ما تملكه من ذكاء وحنكة، حتى تقوم ثورة البشرات الثانية (1568-1571) بقيادة محمد بن أمية، ومن بعده ابن عبو، لكن مصيرها كسابقتها. "المشكلة أنَّ قادتنا كانوا أصغر منَّا، كنَّا أكبر وأعفى وأقدر منهم، ولكنهم كانوا القادة، انكسروا فانكسرنا". يأتي الأمر بالرحيل قاسياً، ترفضه مريمة فيضطر "علي" للتحايل على جدَّته لتنفيذه، لكنها تموت في الطريق في العراء.
يعلم عمر الشاطبي الفقه والدين لمن التمس فيهم النَّباهة؛ فيسرج لهم السراج، ليستمر حمل القنديل، في إشارة إلى تناقل العلم والدين والفقه جيلاً، إثر جيل سراً، ولا يقتصر دور عمر الشاطبي على نقل العلوم وإيداعها في قلوب الشباب، إنما يسعى لإصلاح ذات البين، وحقن الدماء بين العوائل المتنازعة، والتي دبَّ الخلاف بين أبنائها؛ حتى استحال عداء دامياً لسنوات، "وكأن همَّاً واحداً لا يكفي" وما أشبه اليوم بالبارحة! ففي الوقت الذي ينقضُّ على أمَّتنا الأعداءُ من كلِّ حدَب وصوب، ينهشونها ويمزِّقونها، ينشغل أهلُنا بنزاع بيني، يقضي على كلِّ أمل بالتغيير، فالنزاع بين الأخوة في فلسطين، والحروب الطائفية والخلافات في الخليج، كلُّها نزاعات نحن في غنىً عنها.
تكثر الشخصيات في الرواية، لكن رضوى تبدع في تجسيدها ومراعاة تطوُّرها، عبر الأحداث، وبرغم النهاية المأساوية لجميع الأبطال "الموت"، وبرغم كمِّ الحزن والعذابات التي ترويها السطور، إلا أنَّ رضوى تمنحك فسحة من خفَّة الروح في بعض المشاهد، لا تملك معها إلا أنْ تضحك، وربما يعلو صوتك عالياً.
تميَّزت رضوى بلغة جميلة، تنِمُّ عن معرفة، تمنحك رواية تاريخية، لكنها لا تكتب تاريخاً؛ فتندفع لبطون الكتب، تقرأ عن أمَّة هناك عاشت في الأندلس، واختفت، كانوا ينتظرون مددًا لم يصل من الشام والعراق ومصر، وطرحت أسئلة أكثر تجعلك تحكُّ رأسك وتتساءل: لماذا يحدث كلُّ هذا؟! ثمَّة الكثير ممَّا يمكن أن يقال، لكن في نهاية المطاف ترسل رسالة مفادُها أنَّ الصمود حياة، وأنَّ الموت، كلَّ الموت، في الرحيل. ولعلَّها رسالة تثبَّت فيها أهلُنا في فلسطين.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.