عندما يطغى الهوى على الإنسان، وتستحكم فيه النزوة، وتشدّه الطبيعة البشريّة، وتؤزّه الرغبة في الاجتهاد واستنباط الجديد والثورة على القديم، ثم إنّه بعد ذلك كلّه يصطدم بنصوص الوحي اصطدام الذاهل الغافل بالجدار الأصمّ، لا يملك هذا المفتون إلا اللفّ والدوران، والتملّص والرّوغان، ولن يجد باباً أوسع من اللغة ليحمّلها سمّه، ويقوّل الشارع ما لم يقل، فيا ليت شعري هل من تسمية أدلّ على مسمّاها من "التحريف" عوضاً عن "التأويل"؟
أي لا يعلم ما يمكن أن يؤول إليه الخبر الذي أخبر عنه النبيّ -صلى الله عليه وسلّم- من أخبار الغيب كصفات المولى جلّ وعلا، وأخبار يوم القيامة، فلا يمكن لأحد أن يعرف حقيقة ذلك. ولعلّنا نستطيع أن نفرّق بين معنى "التأويل" و "التفسير" أن التأويل أعمق لأنه يُرجع المعنى إلى أصله الحقيقي الذي قد يخفى عن القارئ العاديّ الغُفل.
لكن بمجرّد دخول الفلسفة على الدين، وتقمّص كثير من أبناء المسلمين لفلسفة اليونان حلّت الطوامّ، وبدأت النزاعات تحت مسمّى حرّية التأويل والتفسير. إنّ الأمثلة أكثر من أن تُحصى وسنكتفي بما أصّله المعتزلة حين قالوا: كلّ نصّ يخالف العقل فلا بدّ من تأويله، لأن الدين لا يخالف العقل، بل جاء مكرماً له، مشيداً بدوره. فاستطاع المعتزلة أن ينكروا كلام الله عزّ وجلّ بالرغم من وجود الآيات الصريحة، ولتقرأوا إن شئتم كلام شيخ مفسّريهم الزمخشري حين قال في تفسير "وكلّم الله موسى تكليماً" أي جرّحه بمخالب الحكمة.
وليس هذا الروغان إلّا للهروب من المعنى الصريح الذي دلّت عليه الآية. بل إن الأشاعرة أصّلوا في أشهر متونهم "جوهرة التوحي" وكل نصّ موهم تشبيهاً، أوّلهُ أو فوّضه ورُم تنزيهاً، فاستطاعوا أن يهربوا من إثبات الصفات الفعلية والصفات الخبريّة المحضة تحت مسمّى التأويل. أين المشكلة في التأويل؟ سيقول لك القائلون: وما الضير في أن يختار الإنسان التأويل الذي يناسب رأيه، ولماذا تحجرون التأويل لأنفسكم، ولماذا تحرمون الناس من الحرّيّة الفكريّة؟ الجواب: إنّك لو تبنّيت رأياً خاصّاً بك في أي مسألة فلن يلومك أحد، ولكن أن تنسب هذا الرأي للقرآن الكريم وللسنة الشريفة فهذا لعمري هو التحريف والتزوير بعينه، بل هو تقويلٌ للقائل ما لم يقل.
ثم إنّ الأمر -في زماننا- تعدّى الأسماء والصفات، لترى أمثال "محمد شحرور" في روتانا وغيرها يحلّلون الحرام تحت مسمّى التأويل، فها هو شحرور يبيح المساكنة بين الرجل والمرأة، ويبيح الخمرة لأن الله تعالى -بزعمه- لم يقل: هذا محرّم. بل قال "فاجتنبوه"، ثم إنه يجعل حصّة المرأة من الميراث كحصّة الرجل مؤوّلاً "للذكر مثل حظ الأنثيين" تأويلاً صبيانيّاً، وأنكر حدّ السرقة في قول الباري "والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما" وقال: كلمة قطع ليست هنا بمعنى بتر، بل هي بمعنى كفّ السارق عن السرقة بأيّ وسيلة. ولا يخفى على ذي عينين مقدار الهوّة التي يجعلها أولئك المؤوّلون بين النص ومعناه.
خاتماً، اعتقدوا فاستدلّوا، واصطدموا بالنصّ فأوّلوا وحرّفوا، أين اللذين يقرؤون الدليل ثم يتبنّونه عقيدة وعملاً؟ وإن الناس لو سارت على هذا النهج من التأويلات الباطلة فلن يبقى لنا من ديننا إلا كما تبقي النار من الهشيم، والله المستعان.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.