شعار قسم مدونات

عائلات وعشائر.. صراع المدينة والريف في العراق

مدونات - بغداد مدينة العراق

غابت مؤسسة الدولة عن العراق منذ سقوط حكم العباسيين عام 656 للهجرة، حيث خضعت البلاد لحالة من الفوضى وصراع الأمراء المتغلبين ممن كان معظمهم غرباء عن البيئة المحلية ومنشغلين بغزو بعضهم البعض، ولم يتعد سلطانهم الفعلي حدود المدن الكبرى، وقد أحدث غياب الدولة -بوصفها كيانا حاميا وحاويا للسكان- فراغا سياسيا كبيرا وتصدعات اجتماعية نتج عنها انهيار وتفتت المجتمعات الحضرية المرتبطة بالمدن، وسيادة أنماط معينة من التشكيلات الاجتماعية كانت قد ذابت سابقا وانصهرت في بوتقة المدنية، فظهرت العشائرية بشكل واسع، وتقلصت المساحات الخضراء بعد أن قام المغول بهدم سدود الماء في العديد من المناطق وحرق الكثير من الحقول والبساتين، كما أن المدن نفسها قد تغيرت.

 
فبغداد التي كانت مركزا عالميا كبيرا للحضارة والسياسة؛ تحولت إلى مدينة صغيرة بائسة بعد أن زال عمرانها وتقلصت مساحتها، وكذا الحال مع المدن الكبيرة الأخرى كالموصل والبصرة والكوفة وسامراء وواسط، وقد ساهمت حالة الفوضى التي أعقبت الغزو المغولي في سيادة هذا النمط من التفكك الاجتماعي والحضري، فالأسر التي توالت على حكم العراق كالإيلخانيين والجلائريين ومن جاء بعدهم؛ انشغلت بالصراع والتنازع على السلطة، فلم تستقر أحوال البلاد، حتى سيطر العثمانيون على بلاد الرافدين عام 1534 للميلاد، فحدث نوع من الاستقرار في المدن الكبيرة، لكن الفوضى ظلت تضرب بأطنابها في الأرياف والبوادي، وظل العراق ساحة للصراع وتصفية الحسابات بين العثمانيين والصفويين، حتى جرى على الألسنة مثل شهير ظل العراقيون يتداولونه لقرون وهو "بين العجم والروم بلوى ابتلينا".
 

أمراء محليون وكوارث طبيعية

قامت خلال هذه الحقبة عدد من الدويلات والإمارات سدت مكان الدولة وقامت ببعض واجباتها، كان من بينها: الإمارة الجليلية في الموصل. إمارة آل السعدون في الجنوب. حكومة المماليك في بغداد وما حولها. إمارة آل ربيعة الطائية في المنطقة الممتدة من جنوب الأنبار حتى أعالي الفرات في الرقة شمال شرقي سوريا، وكان مركزها مدينة عنة شمال غربي الأنبار. دولة المشعشعين ثم الإمارة الكعبية في الأحواز، وكان مركزها مدينة المحمرة، وامتد نفوذها إلى بعض المناطق شرق العراق كميسان وواسط وأجزاء من البصرة. إمارة آل بابان في السليمانية. بالإضافة إلى مشيخات متفرقة هنا وهناك.

 

واجه أبناء الريف مشكلة التجنيد الإلزامي في الجيش العثماني ومن بعده العراقي، وكثيرا ما تمردوا على ذلك، لكن عصيانهم كان يواجه بالقمع العسكري
واجه أبناء الريف مشكلة التجنيد الإلزامي في الجيش العثماني ومن بعده العراقي، وكثيرا ما تمردوا على ذلك، لكن عصيانهم كان يواجه بالقمع العسكري
 

وتعرض العراق في القرون التي تلت سقوط الدولة العباسية لكثير من النكبات والكوارث الطبيعية، فقد ضرب الطاعون المدن الكبيرة عدة مرات مخلفا مئات آلاف الضحايا، كان آخرها طاعون بغداد الشهير عام 1831 والذي أتى على أكثر من خمسين ألف نسمة من سكان المدينة، وأغرقت الفيضانات الكثير من المدن الصغيرة فهجرها أهلها إما إلى الحواضر الكبيرة أو إلى الريف، هذا عدا عن الحروب والصراعات المسلحة بين المركز والعشائر المتطلعة للإغارة على المدن ونهبها باستمرار. 

 

وبقيت بعض الحواضر على حالها رغم تقلص مساحاتها وخسارتها للكثير من استقرارها وتماسكها الاجتماعي، لكنها كانت أحسن حالا من الأرياف والبوادي التي تحكم فيها زعماء مسلحون وتحالفات عشائرية كبيرة، وساد المدن نظام العوائل الكبيرة التي انخرط أبناؤها فيما بعد في التعليم والجيش وتبوأوا المناصب العليا، أما أبناء الريف فواجهوا مشكلة التجنيد الإلزامي في الجيش العثماني ومن بعده العراقي، وكثيرا ما تمردوا على ذلك، لكن عصيانهم كان يواجه بالقمع العسكري من قبل السلطة دوما.

  
وقد شجعت إصلاحات الوالي العثماني مدحت باشا (1869-1872) القبائل البدوية على الاستقرار وممارسة العمل الزراعي والتجارة، ثم بدأت مدن جديدة بالظهور في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كالديوانية والعمارة والعزيزية وقلعة صالح والكوت والناصرية والرمادي والشطرة والشامية والرفاعي وغيرها، وانخفضت نسبة البدو بين السكان لتصل إلى 19 بالمائة بحلول عام 1905م.
   

زعماء ومحاربون
 الجيش العثماني في العراق أثناء الحرب العالمية الأولى (مواقع التواصل)
 الجيش العثماني في العراق أثناء الحرب العالمية الأولى (مواقع التواصل)

 

اعتمد العثمانيون خلال فترة حكمهم على عائلات محلية ذات نفوذ وتأثير يمتد خارج أسوار المدن، كان من بينهم زعماء عشائر كآل الشاوي شيوخ عشيرة العبيد، والتي منح أمراؤها لقب (باب العرب)، وآل النقيب الذين تولوا منصب نقابة الأشراف وكانت لهم الزعامة الروحية في بغداد وأقطار إسلامية أخرى باعتبارهم من نسل الشيخ عبد القادر الكيلاني وسدنة مرقده في بغداد، وآل الجليلي الذين حكموا الموصل، وآل العمري الذي ينحدرون من سلالة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وآل الزهير الذين كانوا يبسطون نفوذهم على مدينة الزبير بالقرب من البصرة، وآل السعدون في المنتفق وسوق الشيوخ وأطراف البصرة، وآخرين.

  
وقد تقلد أبناء هذه العوائل معظم المناصب الحكومية في الولايات العثمانية العربية، بالإضافة إلى بعض المناصب خارجها، وانتسبوا إلى الجيش العثماني وخدموا في صفوفه، وبرزت من بينهم أسماء عدد من الضباط الذين درسوا في (مدرسة العشائر) بإسطنبول، والتي أنشأها السلطان عبد الحميد الثاني عام 1892 لتستقبل أبناء الأعيان والأمراء العرب من أجل تعليمهم تعليما حديثا ودمجهم في الوظائف الكبرى للدولة، ثم تسنم بعض هؤلاء مناصب عسكرية ومدنية في جهاز السلطنة الإداري، وشارك الكثيرون منهم في حروب الباب العالي.

 
وبرز دورهم في عدد من المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية في أواخر سني حكمها، وكان منهم نوري السعيد وجعفر العسكري وياسين الهاشمي وأحمد عزت العمري وناجي شوكت، وغيرهم، وقد نقل المؤرخ إبراهيم عبد الغني الدروبي جانبا من حياة هذه الأسر وتقاليدها في كتابه ذائع الصيت (البغداديون أخبارهم ومجالسهم)، وشملت دراسته الأسر المسلمة والمسيحية واليهودية.
 

كانت نخبة الضباط العراقيين في الجيش العثماني هم عصب الدولة العراقية الحديثة التي تشكلت عام 1921، ومن أبرزهم رئيس الوزراء المخضرم نوري السعيد، وياسين الهاشمي وأخيه طه الهاشمي، وقد وصلوا إلى مراتب متقدمة في العسكرية العثمانية، وقاد بعضهم معاركها في البلقان وشبه جزيرة القرم وسواها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.