بالرجوع إلى دفتي التاريخ نجد أن بلفور كان آخر من أعطى تصريحا وتعهدا بإقامة الوطن اليهودي المزعوم، فقبل بلفور بسنوات صدر تصريح مشابه لتصريح بلفور من وزير داخلية روسيا القيصرية أشار فيه بوضوح إلى وجوب مساعدة اليهود بإقامة وطن قومي يجمعهم، كان هذا التصريح قد صدر في عام 1903 وجاء فيه: تستطيع الصهيونية ان تعتمد على دعم مادي ومعنوي من روسيا.
أيضا بالرجوع حوالي قرن من تصريح روسيا البلفوري، كان التصريح الأول في العصر الحديث قد صدر من فرنسا على لسان نابليون بونابرت عام 1799 الذي دعا اليهود إلى الاستيطان في أرض فلسطين إبان حملته العسكرية على الشرق التي باءت بالفشل.. وغيرها من التصريحات والوعود التي صدرت من هنا وهناك من دول الغرب والتي دعت في أغلبها إلى إنشاء ما يسمى الوطن القومي لليهود على أرض فلسطين أو على غيرها كما ورد في تصريح أوغندا الشهير عام 1903.
لكن التاريخ القديم يروي لنا حكاية بلفورية لها نفس المضامين الاستعمارية على أرض فلسطين، ولكن هذه المرة من الشرق ومن بلاد فارس بالتحديد بعد حادثة السبي البابلي لليهود التي قام بها الملك نبوخذ نصر، والذي أسر على إثرها عدد كبير من اليهود وـخذهم إلى بابل.
ولكن بعد ضعف الدولة البابلية شن الفرس حملة على بابل وسيطروا عليها بمساعدة اليهود وبالتالي وقعت كل الأراضي التابعة للدولة البابلية تحت نفوذ الفرس في 539 ق.م، بمساعدة اليهود، وهنا تبدأ حكاية وبطبع النسخة البابلية للتوارة وتوزيعها. وبالفعل وافق كورش وأعطاها ما أرادت وتم لليهود ما صبوا إليه وهم إلى الآن يحتفلون بكورش الفارسي ويعتبرونه مخلصا لهم.
قد يقول قائل إن اليهود موجودين في أرض فلسطين من قبل الميلاد، ولكن للتاريخ قوله الفصل في ذلك، فاليهود دخلوا إلى أرض الكنعانين كلاجئين مع يوشع بن نون هاربين من طغيان فرعون، ودارت بينهم وبين أهل الأرض معارك، وقد ارتد كثير منهم عن ديانة موسى وتأثروا بمعتقدات الكنعانيين وطقوسهم الوثنية وأسسوا ممالك لهم إلى حين قدوم نبوخذ نصر والذي أنهى وجودهم واقتاد غالبيتهم كأسرى إلى أزقة بابل.
مما سبق، يتبين لنا مكر اليهود القديم في تزوير الحقائق ونصب المكائد واستجداء الملوك والدول من الشرق إلى الغرب من أجل تحويل الدين إلى قومية وإنشاء وطن يضمهم إلى أن تمكنوا في العصر الحديث من الحصول على التصريح الشهير بلفور الذي منحهم حقا بإقامة وطن مزعوم فوق أرض فلسطين، مستفيدين من تفكك الحالة العربية ونشوء النظام العالمي الجديد الذي أباح استعمار الأرض والبشر فمن بلفور حتى يومنا هذا دفع الفلسطينيون وما زالوا ثمن المؤامرات الدولية والصهيونية وتحول ثلثي الشعب الفلسطيني إلى لاجئين في مخيمات الشتات على امتداد هذه الأرض.
ومن كورش إلى بلفور إلى يومنا هذا لا تزال فلسطين تحمل هويتها الكنعانية في القدس وغزة وربوع الضفة وفي المناطق المحتلة منذ عام 1948 حتى في أزقة المخيمات، لا تزال فلسطين بمدنها وقراها وتراثها تدور في زقاق المخيم تحفر أصالة الحق وجذور الانتماء ولا يزال أطفالها بعد مرور مائة عام على تصريح بلفور ينشدون للعودة والتحرير.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.