لذلك لم يستطيعوا التجذر في أي منها بالشكل الكافي والمؤثر الذي يجعله نقطة ارتكاز قوية في تنافسهم مع الآخرين، دون أن يعوا الفكرة التي سماها عبد الله النفيسي ((المضغة الاجتماعية)) والتي ملخصها: أن يختار أحد عناصر التأثير المجتمعي في عملية التغيير، فيتم تركيز الاهتمام عليه والتواجد فيه بقوة، ومن خلاله يمكن تحقيق الكثير من الأهداف، والانتقال عن طريقه إلى ساحات ومسافات ومواقع متقدمة، تضمن تواجدا فاعلا ومؤثرا على المستوى الاجتماعي العام ومن ثم التمكن السياسي.
إذا استمرت الحركات الإسلامية في إيهام نفسها بفكرة الشمول دون أن تختار مضغة اجتماعية تشتغل عليها بشكل أكثر تركيزا، فلن تغادر مربع العمل الهاوي المحدود الذي لن يحقق لها نتائج ذات بال |
ولعل من أكبر وأهم أسباب فشل الإسلاميين وإخفاقهم المتكرر هو عدم إدراكهم الفكري والعملي والتنفيذي لنقطة المضغة الاجتماعية هذه، مع بقائهم يترنحون في وهم الشمول، الذي تركهم محدودي التأثير في المجالات جميعها، فقد اختار القوميون العرب مضغة الجيش فسيطروا من خلاله على السلطة والدولة في كثير من الدول العربية، وحدد اليساريون النقابات المهنية والمنظمات الجماهيرية لتكون مضغتهم التي استطاعوا أن يفرضوا وجودهم في السلطة وتأثيرهم فيها من خلالها، وتوجه الليبراليون إلى منظمات رجال الأعمال لتكون مضغتهم فيتحكمون بها في كثير من الأنظمة والحكومات، بينما الحركة الإسلامية لم تحدد هذه المضغة الاجتماعية، وظلت توزع جهودها على كل المستويات، تحت مبرر الشمول، فبقيت ضعيفة أو متواجدة دون تأثير وازن فيها جميعا.
ولن يستقيم أمر الإسلاميين، ويضمنوا مكانتهم وتأثيرهم بحجم محترم أو مقبول على الأقل إلا إذا قاموا بمراجعة جادة لفكرة المضغة الاجتماعية هذه، وسعوا عمليا إلى صناعتها بشكل احترافي، وهم يملكون مشاريع مضغ اجتماعية يحسدون عليها لأن غيرهم لا يملكها أو لا يملك مثلها كما وكيفا، لكنها غير مستغلة الاستغلال الأمثل، بل كثير منها معطل مكبل اليدين والإرادة لأسباب كثيرة لا يتسع المجال لذكرها هنا، وأقصد رصيدهم من الشباب والطلبة على وجه التحديد، يمكنهم الاشتغال عليها وفتح الآفاق الرحبة لهم وإخراجهم من شرا نق العمل التنظيمي الضيق والمحدود، والمستهلك للطاقات في محارقه القاتلة للإبداع، إلى فضاء العمل المجتمعي الواسع والمؤثر والصانع للفارق.
أمّا إذا استمروا في إيهام أنفسهم بفكرة الشمول دون أن يختاروا مضغة اجتماعية يشتغلون عليها بشكل أكثر تركيزا، فلن يغادروا مربع العمل الهاوي المحدود الذي لن يحقق لهم نتائج ذات بال، ولن يضمن لهم الحفاظ على الإنجاز، وإن خدعتهم مظاهر تقدمهم الكمي والتكديسي في بعض المحطات، المنبتة عن عوامل القوة الحقيقية، والبعيدة عن أسس الارتكاز والتجذر المانعة من الانهيار السريع، وسوف يستمر مسلسل إضعافهم، وتسهل إزاحتهم عن مشهد التأثير في كل مرة تتاح لهم فيها الفرصة لذلك.
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.