شعار قسم مدونات

كيف تقتني كتابًا؟

blogs مكتبة

تقف أمام أحد محلات بيع الكتب، أو أنك تتجمهر مع الحشود الهائلة قبالة البسطات في أحد المعارض، لتشتري كتابًا، فتسأل عن سعرها، فتفجع من الأسعار الهائلة، فيقول لك البائع، أو إن صح القول، النخّاس: ثمن الحبر باهظ، وقيمة الورق مرتفعة، ونوع الورق قيّم، وبدل الشحن هائل، وضرائب الدولة…إلخ، وهو الرجل الواثق بنفسه، الذي يريد إلقامك الحجر، لكي تقتنع بأن هذا الكتاب موافق منطقيًّا للسعر الذي فجعك به!

نحن فعليًا أمام معادلة بثلاث متغيرات، في طرفها الأول تحوي متغيران لنخّاس الكتب، وفي طرفها الآخر تحوي المتغير الثالث الخاص بك أنت، فالأوليان هما ثمن كلفة الكتاب، والمضمون الذي يزعم الناشر أنه مفيد، والمتغير الخاص بك هو مدى حاجتك أنت لهذا الكتاب، أو هي مدى صدقية زعم الناشر لإفادتك في ذلك المضمون!

يزعم الناشر أنه صادق في حاجة الجمهور لمضمون كتابه، أي مدى طلبه من قبل الجماهير المختصة والعامّة، ولكن ذلك هو ملك يمينك، وليس لأحد ما أن يقرر تغيير هذه القناعة، وهذا ما يقرر فعليًا التوافق بين السعر المطروح وقيمة الكتاب الفعلية.

إن مقارنة العنوان بالفهرس، والتأكد من توافقهما، يعطيك النتيجة الأساسية في مدى تخصص دار النشر في فهم حقيقة صناعة الكتاب
إن مقارنة العنوان بالفهرس، والتأكد من توافقهما، يعطيك النتيجة الأساسية في مدى تخصص دار النشر في فهم حقيقة صناعة الكتاب
 

يرمي الناشر الكتب البراقة، ذات الغلاف الجاذب، والذي تم تصميمه في غرف السحر والشعوذة التي تعطيه الألوان التي تسرق النظر، من غير وعي الجمهور بها، فتجد انجذاب السواد الأعظم من المشترين لهذه التصاميم العجيبة والرسوم الغريبة، وهذا أول عامل يجب عليه إهماله قدر الإمكان، وأن لا تجعل منه تأثيرًا عليك قدر أنملة، لإنه لا يساوي شيئًا أمام مضمون الفائدة التي ترومها من هذا الكتاب.

العامل الثاني الذي يتلو جذبك بعد التصميم الخاص بالغلاف، هو العنوان، وهذا الآخر، عليك أن تحذر منه حذرك من سم الأفعى، فهي تلدغ، ويا ويلك لو أنها كانت ذات سم هائل، فقد تمشي في صحراء وتجد بئرًا من الماء، وتقترب للشرب منه، فلا تعرف أن هنالك أفعى تتنصل حولك وأنت تقوم بسحب دلو الماء من عمق ذاك البئر، نعم! فلا تعرف كنْه المفاجأة التي تخبئها لك هذه الأفعى، ومدى سُمّيتها، وسرعة قتلها لك، وهكذا عنوان الكتاب، فاترك الجذب الخاص من قِبل العنوان، ولكن لا تهمله تمامًا كما فعلت بالتصميم الملون وشكله المدبج ولباسه المرجل.

 

ولكن تدمير خط الدفاع الثاني لمافيات الكتب، هو أن تقرأ العنوان بهدوء وراحة. ثم تقوم بمقارنة تفاصيل العنوان وكلماته المفتاحية بفهرس الكتاب، ولا يكفي ذلك! بل قارنه مع المضمون الأصيل للكتاب، وهذا خط الدفاع الثالث لديهم في تدمير عقلك وسلب عاطفتك!

إن الوصول إلى فهرس الكتاب، خط الدفاع الثالث، يجعل ذلك النخّاس يمتعض، ويشعره ببعض من المغص، لأنك على وشك اعتماد أسلوب كفؤ في هدم المتغير الثاني من المعادلة لدى مافيا الكتاب، أي زعمهم حاجة السوق لكتابهم. إن مقارنة العنوان بالفهرس، والتأكد من توافقهما، يعطيك النتيجة الأساسية في مدى تخصص دار النشر في فهم حقيقة صناعة الكتاب، ولكن هذا لا يكفي، بل الترتيب المنطقي المراعى في مناهج البحث هو المهم في تفاصيل الفهرس، وبكل بساطة، فإن ترابط العنوان بالفهرس هو كاف لك حتى تفهم أنك أمام دار نشر تحترم عقول الجمهور.

 

انظر في طريقة اقتباس المؤلف من مصادره التي وضعها، وهذا الخط هو ما يصل بك إلى طبيعة النزعة النقدية للمؤلف، والتي تجعل من الكتاب قيّمًا بشكل فعلي
انظر في طريقة اقتباس المؤلف من مصادره التي وضعها، وهذا الخط هو ما يصل بك إلى طبيعة النزعة النقدية للمؤلف، والتي تجعل من الكتاب قيّمًا بشكل فعلي
 

ثم عليك تحقيق حاجتك من الكتاب من خلال هذا الفهرس، فهل العناوين الأساسية تفيدك؟ وهل الفرعية التي انضوت تحتها متسقة مع الأساسية، وأنها كذا تعبر أن حاجتك الحثيثة للكتاب؟ الجواب لك. ويمكنك أن تضيف حسبة بسيطة لعدد المصادر التي يلزم تواجدها في كتاب ما، وهي وجود ما نسبته نحو (66-75) بالمائة من عدد صفحات الكتاب للمصادر، فلو كان كتابًا ما عدد صفحاته الثلاثمائة، فإن 200 مصدر يعتبر كافيًا له.

خط الدفاع الرابع، وهو الذي يسبب الصداع المؤلم للتاجر الخبيث، وهو عندما تقلب الكتاب على قفاه، وتقوم بتفحص قائمة المصادر التي اعتمد الكتاب عليها في بناء نفسه، فهل هي متنوعة اللغات؟ هل تحوي توازنًا بين تلك المصادر الأجنبية وتلك العربية -على سبيل المثال-؟ وهل تحوي دراسات خاصة من الدوريات أو رسائل الدراسات العليا؟ هل فيها مقالات للمتخصصين أم أنها عشوائية؟ هل هي مرتبة أبجديًّا؟ هل تحوي مراجع أصيلة قديمة -إن كانت الدراسة تحتمل- بالإضافة إلى المصادر الحديثة؟ أم أنها خلطت الحابل بالنابل؟

هنا يرتاح البائع ويقول ما دام أنه لم يتفحص المضمون، فلسوف نصيده! ولتنكيسه ما عليك سوى أن تفتح الكتاب، وتنظر في مدى توافق عناوين الفهرس مع محتوى هذا العنوان، فاختر أحد العناوين مثلًا، ودقق في تفاصيله، وافتح الصفحات التي تتبع له، وانظر في مدى توافق العناوين الفرعية والرئيسة مع محتوى ما انضوى تحتها. ثم من ناحية فنية، هل هنالك توازن في عدد الفقرات، أم هنالك عنوانًا فرعيًا أو رئيسًا بشكل سريع بحيث لا يمكن اكتمال الفكرة بشكل تام؟ ومن ناحية وظيفية، هل تعبر العناوين الفرعية والرئيسة عن محتواها؟ هذه الأفاعيل تجعل البائع يجلس ويصاب بالإعياء، وقد يشرب كأسًا من الماء، ولا مانع من قولك له: هل أتعبتك! لكي ترمي السهام في كبده، نعم قد تجده يضحك في وجهك، ولكن اعلم أنه بدأ في الحقد عليك.

اقرأ محتوى أحد العناوين الرئيسة أو الفرعية التي تختارها عشوائيًّا ضمن الصفحات، وانظر في اتساع الهوة بين الاقتباس وفكرة المؤلف

المهمة الصعبة وهي خط الدفاع الخامس للناشر، وهي أن تنظر في طريقة اقتباس المؤلف من مصادره التي وضعها، وهذا الخط هو ما يصل بك إلى طبيعة النزعة النقدية للمؤلف، والتي تجعل من الكتاب قيّمًا بشكل فعلي، وأنه لا يجمع قطعًا من الخردوات داخل كتابه، وأنّه ليس من المصحّفين، ولا من صانعي الورق لا أكثر.

 

الضربة التي يجب أن تقوم بها، هي أن تقرأ محتوى أحد العناوين الرئيسة أو الفرعية التي تختارها عشوائيًّا ضمن الصفحات، وتنظر في اتساع الهوة بين الاقتباس وفكرة المؤلف، أي أن للمؤلف فكرة يريد الوصول لها عن طريق الاقتباس، ليوصلها للقارئ عن طريق استدلال أو استقراء، أو حتى نقد أو تحليل، أو تفسير، فليس تجميع النصوص من الكتب هو تأليف، فلا تغدو عملية التجميع عن تصحيف هزيل، والتأليف هي عملية التحليل والنقد والاستقراء والتفسير إلى غيرها من إضافات المؤلف العلمية لساحة البحث العلمي، وهذه المسألة تعطيك الختم الأهم لصدقية متغير الناشر في احتياج السوق لكتابهم، فكلما وجدت من خلال الصفحات التي تقرأها تلك الأساليب الخاصة بالتأليف الحقيقي، فإن هذا الكتاب يحترم، ويستحق الشراء. بالتأكيد مع موافقة ذلك لساحة البحث والتخصص والقراءة الثقافية التي تريد، فأنت لا تشتري رواية مجردة.

يقول لك النخّاس: لدينا كلفة تصنيع، ولدينا احتياج الجمهور لهذا الكتاب. وأنت اكسر قوله، فأنت الجمهور، وأنت صاحب القرار، وليس غيرك، قل له: إني من يحدد الحاجة لهذا الكتاب، فإنني ناظر فيه، وإنني صاحب الفائدة، وليس أنت من سيكتب بحثي! وفي النهاية مهما كان سعر هذا الكتاب، فإن الشروط أعلاه ستحدد لك حقيقة سعر ذاك الكتاب الذي سيرافقك حتى الممات، فكن مختارًا بأهلية لذاك الرفيق، فخير جليس في الزمان كتاب.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.