شعار قسم مدونات

كيف تصنع المجتمعات الشاردة النخبة القائدة؟

blogs - Historic books
مجتمعات تعودت أن تقاد بزعماء هم أقرب للأسطورة والخرافة منهم للحقيقة، قادة نتصور أنهم يملكون مصباح علاء الدين لحل كل مشاكلنا في لحظات، فأخذنا نبحث عن أمثال صلاح الدين الأيوبي محرر القدس من يد الصليبيين، قادة أمثال الخليفة الخامس عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه، أو محمد الفاتح فاتح القسطنطينية العصية وهو في أوائل العشرينيات.

إن بحثنا عن القدوات أمر طبيعي في مجتمعات عاطفية، أنشأت أجيالا وربتها على الصفحات المشرقة لتاريخ الأمة، مما زرع فيها نرجسية وتعاليا غير مبررين، تربية أغفلت أن توضح لنا أن هؤلاء القادة العظماء والفاتحين الشرفاء، كانوا جزءا من تاريخ يحمل الغث والسمين، المشرق والمخزي، فمن سبقونا لم يكونوا ملائكة ولا معصومين، الذين سبقونا قاتلوا وضحوا وبذلوا الغالي والثمين ليحققوا ما حققوه، فكان منهم المخلص والمجاهد والمتفاني، كما كان بينهم الخونة والسلبيون والمترددون والمثبطون.

تاريخنا المشرق الذي عرف بزوغ شمس الدولة العثمانية وشخصيات بارزة كالسلطان محمد الفاتح، عرف في نفس المرحلة أفول حضارة بأكملها في الأندلس سقطت بين يدي الأوروبيين، بعد أن تهاون أحفاد المسلمين في حماية أرث الأجداد، فتحالفوا ضد بعضهم البعض مع الصليبيين، تاريخنا المشرق عرف تخاذلا جعل القدس تقبع تحت يد المسيحيين 88 سنة، حتى حررها الفاتح صلاح الدين في 1187م، لكن الصراعات والشروخات التي كانت بعده بين الملوك الأيوبيين، جعلت بعضهم يسلم مفاتيح القدس للصليبيين، ليعيثوا فيها ظلما وتدميرا وتقتيلا طيلة أربع سنوات كاملة، ليعيدها الملك نجم الدين أيوب إلى حضن المسلمين عام 1244م.

لا يمكن صناعة نخبة دون تضحية وبذل وعطاء ومنح دون إنتظار للمقابل .وأنا من المجانين الذي يؤمنون بوجوب العمل لصناعة النخبة القائدة في أمتنا، التي شبعت حد التخمة.

بدوره عمر بن العزيز رضي الله عنه، الذي عاش بعد هجرة الرسول عليه الصلاة والسلام بـ99 سنة وحكم لمدة لم تتجاوز السنتين وبضع أشهر، ليسميه المسلمون بالخليفة الخامس لما كان في عهده من صفات لم تكن إلا في خلفاء رسول الله عليه الصلاة السلام، بعد أن أغنى الغارمين واليتامى والناكحين، وفاضت في زمنه بيت مال المسلمين، جاهد وقاتل وقاوم كل الظروف والمصاعب والفتن ليعيش شامخا، ويموت كأسطورة من الصعب أن تتكرر.

لكل منا الحق في أن يختار مقدار البذل والعطاء الذي يستطيع تقديمه للمجتمع، حدود تتراوح بين قلب يتألم لما يعيشه المسلمون من دمار وتشتت كحد أدنى، وبين تسخير كل وقت وجهد وتفكير ومال وجوارح الفرد لخدمة قضايا الأمة، مع جعل الأمر روتينا يوميا يعيش عليه صاحبه كحد أقصى للعطاء، ووفق هذا التقسيم فإن بذل الحد الأدنى يجعل صاحبه في خانة العوام، والعكس لمن يرى نفسه في منزلة القدوة والمثقف النخبوي، الذي يقدم التضحيات للمجتمع بطيب خاطر، كمسؤولية أخلاقية بحتة لا ينتظر من ورائها جزاءا ولا شكورا، لكن حين يتقلص وسع ما يقدمه المثقف النخبوي ليتساوى مع ما يقدمه العامي، يصبح الفرق معدوما والقدوة مفقودة، والمحرك الدافع داخل المنظومة المجتمعية متوقفا، وهو ما يجعل العوام لا يتورعون عن مقارنة أنفسهم بالنخبة المثقفة، التي لا تقدم أي بذل أو تضحية تليق بمكانتها المجتمعية، بل قد يتحولون لاحتقارها، لأنها لم تؤدي الدور الأخلاقي المنوط بها، وترغب في الحصول على الإحترام والتقدير والأفضلية المجتمعية التي تعتبر جزاءها الأخلاقي إن هي قدمت التضحيات المطلوبة، حال أفقد المجتمع بوصلته وفتح الباب على مصرعيه أمام الروابض وسلاطين الكلام ليكونوا في مقدمة المجتمع، بدعم وتلميع من الأنظمة الحاكمة وأذرعها الإعلامية، التي تستثمر فيهم لتشتري لنفسها الشرعية الفكرية.

لا يمكن صناعة نخبة دون تضحية وبذل وعطاء ومنح دون إنتظار للمقابل .وأنا من المجانين الذي يؤمنون بوجوب العمل لصناعة النخبة القائدة في أمتنا، التي شبعت حد التخمة من استحضار بطولات الماضي، وهذا لن يكون إلا بعودة المنهاج العلمي لاحتلال مكانته في الأمة التي جعلتها الشعبوية تسلم بفرضيات كنظريات علمية مثبتة، إننا لن نحقق خطوة نحو الأمام إن لم يعد أهل العلم لقيادة دفة المجتمع والدولة، لكن قبل هذا وذاك ينتظر أهل العلم عمل كبير، ليقتنع العوام أن الفرق شاسع بين العالم والمتعالم، الفقيه والمدعي، الواعي والساعي إليه، وهذا لن يكون إلا بتحول أهل العلم لمنح حدهم الأقصى من البذل والعطاء، والذي يجب أن يكون بعيدا كل البعد عن الإدعاء والشكلية، واقع يجب أن نشتغل لنحققه، وإلا بقينا ندور في حلقة مفرغة قوامها مقارنة مالا يقارن ومكافئة ما لا يتكافئ، والتغني بقدوة انتهت واستحالة صناعة خليفتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.