شعار قسم مدونات

أين تُوجد الأفكار؟

blogs-تفكير

 (1)

في مقال سابق بعنوان "عن اللغة والفكر" تطرقنا إلى وجود الأفكار بمعزل عن اللغة وقلنا " إن أكبر دليل على أن الأفكار يُمكن ان تُوجد بمعزل عن الكلمات، هو أننا نستطيع الاحتفاظ بالأفكار دون الكلمات التي تحمل هذه الأفكار، وأننا نستطيع التعبير عن الأفكار بكلمات وصيغ مختلفة".

 

إن امكانية الاحتفاظ بالفكرة مجردةً عن الكلمات واللغة تفتح سؤالاً آخر هو أين تُحفظ هذه الأفكار، وكيف تُحفظ، وفي أي صيغة أو شكل، وفي هذا المقال نريد مناقشة سؤال وجود الأفكار، والقضايا التي يثيرها هذا السؤال.

 

إن الكلمات والرموز وجميع أشكال التمثيل، إذا نظرنا اليها في ذاتها، مثلاً إلى ورقة من كتاب فسنرى ورقة وعليها حبر وحسب. الكلمات تُوجد بعد أن نقوم بعملية تفسير وإعطاء معنى لهذا الحبر المطبوع على الورقة

هُنا تُدخلنا التأمُّلات في اللغة والفكر إلى قضية فلسفية معروفة وهي قضية الفكر والمادة، أو الروح والجسد. لأن افتراض وجود الأفكار كجوهر مستقل بذاته بمعزل عن أي تمثيل لغوي أو رمزي، يعني وجود جوهر غير مادي، وهُنا أيضاً نواجه المشكلة الفلسفية الأكثر صعوبة وهي مشكلة وجود الأفكار كشيء غير مادي في المخ (أو على الأقل مشكلة اتصال الأفكار بالمخ) فنحن هُنا في مواجهة مشكلة أخرى هي اتصال غير المادي بالمادي.

 

(2)

إن انفصال الفكرة عن الوسيط الذي يحملها سواءٌ أكان كلمات أو رموز أو أي شكل من أشكال التمثيل في الخلايا العصبية للمخ، يفرض التفكير في وجود وسيط آخر ذو طبيعة مختلفة يكون هو المسئول عن الاحتفاظ بالفكرة المجردة العارية من الكلمات والرموز والتمثيل.

 

وهُنا نحن لا نتكلم عن مضمون الأفكار ومحتواها المعرفي، وإنما وجودها المجرد عندما ننظر إليها في ذاتها ليس بمعزل عن اللغة وحسب وإنما بمعزل عن مضمونها أيضاً. هذه هي الصورة المجردة للفكرة، القالب الذي يحمل المضامين مثل مضمون العدالة أو الحرية.

 

وقد يجادل البعض بأن كل ما يُوجد هو الفكرة نفسها، وليس هناك انقسام في الفكرة بين الصورة المجردة (أو القالب) ومضمون الفكرة.

 

ففكرة الحرية على سبيل المثال هي شيء واحد هو الحرية. وهذا الاعتراض أشبه بمن ينظر إلى كوب زجاجي شفاف مليء بالعصير ويقول ليس هُناك كوب، كل ما هناك هو العصير، ولكن نحن نعرف أن العصير لا يُمكن أن يُوجد في الهواء بهذا الشكل، ولابد أن هُناك شيء يمسكه ويمنحه هذا الشكل المحدد، مهما كان هذا الشيء شفّافاً وحتى لو كان لا يُرى بالعين المجردة. (العصير في حالة سيولة حتى لا يقول أحدهم أنه موجود بذاته لأنه جامد!).

 

وكذلك الأفكار لها وجود وهذا الوُجود هو شيءٌ آخر غير المضمون الذي تحمله، ونحن هُنا نتساءل عن الأفكار من جهة وجودها المجرد، لا من جهة مضمونها ومحتواها.

 

(3)

إذن، أين تُوجد الأفكار؟

لا يُمكن أن تكون موجودة في المخ – على الأقل كما نفهمه الآن كجزء مادي- لأن وجودها في المخ يماثل أن توجد مخزنة في ذاكرة الكترونية أو حتى في ذاكرة ورقية. فالأفكار الموجودة في هذا المقال على سبيل المثال لا يُمكن أن تكون مخزنة في ذاكرة هذا الحاسوب الذي اكتب منه الآن، ولن تكون موجدة على موقع الجزيرة ولا على جهاز القارئ الذي يقرأ الآن هذه الكلمات.

 

إذا نظرنا إلى المخ كمكان يتم فيه تخزين الكلمات بطريقة مشابهة لتلك التي نخزن بها البيانات في الحواسيب، فإن الأفكار لا يُمكن أن توجد في المخ. وذلك لأن الأفكار تملك وجوداً مستقلاً عن اللغة والرموز

إن الكلمات والرموز وجميع أشكال التمثيل، إذا نظرنا اليها في ذاتها، مثلاً إلى ورقة من كتاب فسنرى ورقة وعليها حبر وحسب. الكلمات تُوجد بعد أن نقوم بعملية تفسير وإعطاء معنى لهذا الحبر المطبوع على الورقة، وهذه عملية تتم في الذهن (و"الذهن" عبارة عن كلمة تشير إلى مفهوم مجرد، ولكن ما هو الذهن حقاً هل هو شيءٌ مجرد أيضاً مثل الأفكار؟ هل يملك وجوداً واقعياً أم هو مجرد كلمة تشير إلى فكرة، ربما سنناقش ذلك في الجزء الثاني).

 

كذلك إذا نظرنا إلى هذا المقال في ذاكرة الجهاز الذي أكتب منه أو الذي تقرأ منه الآن، لا يُمكن أن نقول إن الأفكار موجودة هُناك. ذاكرة الجهاز، أو صفحة الكتاب لا تعرف شيئاً عن معنى الرموز التي تحملها.

 

وبالمثل فإننا إذا نظرنا إلى المخ على أنه عبارة "ورقة بيضاء" يتم فيها كتابة أو طباعة أو نحت المعلومات، فنحن هُنا أمام شكل آخر من أشكال الكتابة واللغة، وإذا نظرنا إلى المخ -الورقة البيضاء- من الداخل، فلن نرى الأفكار، مثلما أننا لا نراها إذا نظرنا إلى ذاكرة الكمبيوتر أو إلى الورقة. (وهُنا لا أتكلم عن النظر داخل مخ إنسان ميت أو حي أو النظر إلى ذاكرة كمبيوتر لا يعمل، وإنما أعني أن ننظر إلى الشكل الذي يتم به تمثيل الكلمات والرموز في المخ وفي الكمبيوتر).

 

أي أننا إذا نظرنا إلى المخ كمكان يتم فيه تخزين الكلمات بطريقة مشابهة لتلك التي نخزن بها البيانات في الحواسيب، فإن الأفكار لا يُمكن أن توجد في المخ. وذلك لأن الأفكار تملك وجوداً مستقلاً عن اللغة والرموز، وأنها تُوجد بعد أن نقوم بتفسير العلامات والرموز وإعطاءها معاني.  فاذا افترضنا أن الأفكار توجد مكتوبة بشكل ما في المخ، فلا يُمكنها أن تكون مفسّرة داخل هذا المخ.

 

أي أننا إذا قبلنا بالمخ كوسيط للتخزين مثل القرص الصلب في الكمبيوتر أو مثل أي حافظة أو ذاكرة الكترونية أو ورقية، فإن هذه الصيغة التي ستوجد عليها "الأفكار" داخل المخ لا يُمكن أن تكون مفسّرة أو لها أي معنى. لأن المعنى دائماً هو شيء يُوجد بمعزل عن التجسّد المادي للكلمات.

 

(4)

لا يُمكننا افتراض وجود شيء آخر في المخ شبيه بوحدة المعالجة المركزية في الكمبيوتر Central Processing Unit "CPU"، لأن هذه الوحدة في الكمبيوتر والتي تُعتبر بمثابة العقل فيه، هي من نفس طبيعة الذاكرة، ولا تقوم بأي تفسير بالمعنى الحقيقي لكلمة تفسير.

 

فوحدة المعالجة المركزية لا تفهم معاني الكلمات ولا تتعاطى الأفكار، إنها تقوم بعمل آلي تماماً لا وجود فيه للأفكار، وذلك حتى إذا كانت تعالج أعقد برامج الذكاء الاصطناعي وأكثرها تطوراً إلى ما لانهاية.. لا يُمكنها أن تكون أكثر من آلة عمياء تجري عمليات حسابية ومنطقية بشكل آلي وأعمى تماماً، لا مكان فيه لأي شيء يشبه الفكرة.

 

وإذا نظرنا إلى وجود شيء مشابه لوحدة المعالجة المركزية "CPU"في المخ، فإن الأفكار لا يُمكنها أن تُوجد كأفكار، وإنما مجرد بيانات لا تقول شيئاً لأي أحد طالما أنها موجودة ستكون موجودة كنوع من أنواع البيانات. ولن يكون المخ هو المكان الذي يقوم بعملية التفسير وإعطاء المعنى لهذه البيانات.

 

في الكمبيوتر كان الذهن الإنساني هو الذي يضع العمليات الأولية لوحدة المعالجة المركزية في سياق تبدو معه أنها تقوم بشيء مفهوم، شيء عقلاني وعظيم

بعبارة أُخرى إذا نظرنا إلى المخ كجهاز كمبيوتر بيولوجي تطوّر عبر الانتخاب الطبيعي بواسطة الأخطاء المتراكمة، فلا يُمكنه أن يستوعب ما هو أكثر من الرموز والكلمات، ولا يُمكنه القيام بما هو أكثر من العمليات الآلية العمياء التي تقوم بها وحدة المعالجة المركزية في الكمبيوتر. لن يكون هُناك شيء اسمه فكرة داخل المخ، لأن الفكرة هي شيء أكثر من الكلمات والرموز التي تحملها.

 

(5)

بالطبع هذا ليس نقداً لنظرية التطور. ولكنه نقد لإمكانية وجود الأفكار في ذاتها، الأفكار المجردة، داخل المخ.

تماماً مثلما أن الخوارزمية The Algorithmلا يُمكن أن توجد في ذاكرة الكمبيوتر. فالكمبيوتر حين يقوم بتنفيذ خوارزمية لترتيب الأعداد على سبيل المثال، فهو لا يعلم بوجود شيء كامل يتسم بالوحدة ومصمم بهدف كلى واحد هو ترتيب الأعداد، فهو يتعامل فقط مع خطوات حسابية ومنطقية صغيرة وعمياء بلا أي هدف ولا أي غاية، وإنما منطق الخوارزمية التي يصممها الإنسان هو الذي يضع تلك الخطوات الحسابية والمنطقية العمياء البسيطة في سياق هدف وغاية هي ترتيب الأعداد، وهذا المنطق يُوجد خارج جهاز الكمبيوتر، في ذهن الإنسان.

 

والآن، إذا انتقلنا إلى مستوى أعلى وتساءلنا عن كيفية وجود هذه الخوارزمية في ذهن الإنسان، فلا يُمكنها أن تكون أيضاً عبارة عن خطوات آلية صغيرة عمياء تحدث في الخلايا العصبية للمخ، بلا أي هدف ولا غاية في الكمبيوتر كان الذهن الإنساني هو الذي يضع العمليات الأولية لوحدة المعالجة المركزية في سياق تبدو معه أنها تقوم بشيء مفهوم، شيء عقلاني وعظيم، ولكن إذا افترضنا أن المخ يعمل بنفس الطريقة فنحن بحاجة إلى ما يجعل المخ يشتغل لإنجاز غاية وهدف ما.

نواصل..

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.