شعار قسم مدونات

لا تعتذر عمّا فعلت

blogs - human
لا أنتِ أنتِ 

ولا الديار هي الديار
[أبو تمام]
والآن، لا أنا أنا
ولا البيت بيتي
[لوركا]

***
انكسارُ المكان كجرّة خزفيّة هو وحده -هذا الحادث المؤسف- الذي قد يصلح دليلًا على سلامة اقتراح غاستون باشلار بأنّنا لا نعرّف أنفسنا بالزمن فقط وإنّما بالمكان أيضًا، بالأمكنة. حيث يمكن فلسفة وعي الكائن بنفسه بأنّه تتابع ارتباطات فائقة بلا نهاية بين الأزمنة والأمكنة، وما يسبق، وما يرتبط بفترة خلو المعنى من الاستعاراث الثقيلة والخفيفة هو ما يترك الأثر الأقوى، الأثر الماضي، والذي إن انكسر هيمن على ذاكرة تريد الانعتاق منه بالعودة إليه أو بالانسلاخ منه، دون جدوى.

المكان كما الزمن كلّ لحظة فيه لا تعود ولا تسترد، كلّ لحظة من دونه لا تعود ولا تستّرد. وهو ليس معطى جاهزًا، ولا جامدًا.

لكن الأمكنة، كما الأزمنة، بما هي تدفقاتٌ عبر الوعي، ليست مواضيع أو فراغات محايدة، نلقي عيلها نظرة، أو نقيم بها، ونمر؛ وإنّما نقوم بتشكيلها وإعادة صياغتها وفق قواعد وبروتوكولات دقيقة تتعلق بفطرتنا وبموروثنا وبمكتسبنا. لذلك يعجبنا قولا أبي تمام ولوركا أعلاه، في هذه الدهشة الحزينة باختلاف المكان عبر الزمن، فاختلاف النفس، أو العكس. هكذا تصير الأمكنة مندمجة في الذات اندماجًا صميمًا.

لسنا أسرى أمكنة لا تستعاد، ولا أسرى أزمنة لا تعود، نحن على أيّ حال وحين التحديق في أعماقنا، لا نقيم إلّا حدودًا مضطربةً ومعتلّةً بين أمكنتنا وأزمنتنا الخاصّة وبين ذواتنا، وحين تُطرح علينا أسئلة من هذا النمط كنتيجة لحدث عميم قاهر يقضّ عرى وجودنا، فإنّنا نفطن لذلك ونحاول الهروب من ثقل الأسئلة والأجوبة، وخلال ذلك نعاني عدم استقرار يقودنا إلى المقبرة. نعم، انكسار المكان المؤسّس لا تنحلّ قضيّته أبدًا عند من تكوّن معه، وتكوّن به؛ إنّه يتسبب في اعتلالٍ غير عكوس، قلق، ومتفاقم.

***
والشعر لا غيره، هو الرقيب على هذه الجدليّة المحملة بثقل الوجود، وهو المرشّح لالتقاط المعاني من فناء متكرر لا ينتهي لعلاقات وتثبيتات الزمن والمكان، ما لا يمكن للمؤرخ ولا للفيلسوف قوله، وما لا يمكن الاستغناء عنه، يقوله الشعر، وتحديدًا في علاقات حميمة مع الأمكنة، لنقل ببساطة هذا هو اشتغال الشعر الأثير، تثبيت المكان، صيانته، إضفاء السحر عليه، استعادته، احياء تفاصيله، ترتيب الهواء فيه، ملاحظة زوايا الظلّ خلاله، ونفخ الروح في تقاسيمه، لملمة شظايا الصوت، وإغلاق الباب مثلًا بهدوء على بكارة بيت خلا من ساكنيه. ولذلك، نحن نحتاج الشعر، لا غيره، حين ننكسر، حين ينكسر المكان، ونبحث عن المكان في الشعر، في قصيدة، أو في نثر.

يظنّ النقاد أنّ قصيدته عاشق من فلسطين كانت علامة فارقة في تجسيد إدراك حجم الفقد، لا للمكان السياسيّ، فلسطين، بل لفلسطين القرية، والقرية البيت، والبيت الباب والنافذة والحديقة، للبرتقالة وقشر البرتقالة، للطائر يترك النافذة ويحلّق، لحبل الغسيل، للموقد ودم الشمس يحنّي المكان، المكان المفقود، المفقود الذي لن يعود.

أجل، المكان كما الزمن كلّ لحظة فيه لا تعود ولا تسترد، كلّ لحظة من دونه لا تعود ولا تستّرد. وهو ليس معطى جاهزًا، ولا جامدًا. وهذا ما يخيفني في علاقتي مع الأمكنة، كلّ ما وقفت على مشهد، كوقوفي على سطح بيّارة البرتقال في برج اسلام ونظري في تدريجات لا تنتهي من الأزرق والأخضر والترابيّ، خطر لي أنّي لن أعود إلى هذا المكان، هذه الظهيرة الدافئة المنعشة. وكذلك تحديقي اليوميّ طفلًا في نجوم السماء فوق سريريّ الصيفيّ قرب الفرات، كلّ سماء كانت زمنًا لا يعود، كالتماع تلك النجوم، كلّ ومضة ضوء هي لحظة فانية، تنحلّ في النهر والساقية، أو تشربها سعفة عادت كالعرجون القديم.

***
ولا يحاول الظلّ، ظلّ الراحل، وظلّ المقيم، ظلّ الجامد وظلّ المتحرّك، ظلّ الشمس وظلّ القمر؛ إلّا اقناعنا بذلك، هيمنة المكان علينا، أو حلوله بنا، حيث يبدو "ببغاء الشكل" هذا متشبثًا بالمكان، ويرسم لنا مع تقاطع الأضواء على قسمات البيت والشارع شكلًا مريبًا، يتبعنا أو يسبقنا، أو يتركنا ليترك في نفسنا أثرًا غريبًا، موحشًا، هو أثر المكان، أو هو أثر انقضاء المكان.

وإنّك واجد معنى ما أقول في الغيابات الإراديّة المقتضبة والقصيرة، حين تعود إلى بيتك، بيت أمّك، تفتح باب غرفةٍ مغلقة عادة، تتفقد الأشياء، وتجلس على كرسيّ اعتدت الجلوس عليه، أو تنظر من نافذتك نحو مشهدك المعتاد، تزور ظلّ نخلة أو زيتونة، ويستغرق ذلك وقتًا، قبل أن تتأكّد بأنّك استعدت شيئًا من المكان. لكن، ماذا عن انكسار المكان والزمان، عن انفلاتهما كرصاصة نحو ماضٍ مجهول، في موقع مؤلم من الذاكرة، نحن قد نعود مثلًا، إلى حيّ ثوريّ دمرته الحرب وخلا من رفاقنا، لكنّا لا نعود أبدًا إلى مكان الثورة عينه الذي استقر في ضميرنا مرتبطًا بزمن له بريق الندى الشتويّ على شمس شحيحة.

هذا ما يُقال هنا، كلّ شيء يذكر بأنّ المكان هو هو، ربّما فيزيائيًّا لم يتغيّر، الكنائس الثلاث المهجورات، السنديان على الجانبين، قرى كنقاط محيت، قمر زائد أو ناقص، نمو عشبٍ بقوّة الربيع والمطر؛ لكن المرآة خدعت العائد، لقد كبر عشرين عامًا، لذلك لن يشارك الفتاة العشرينيّة في المكان صندويشاتها، لو كان أصغر!، والهواء شهيّ. ما يتغير هو علاقة الأنا بالمكان، كما يقول الشاعر، والتي قد تجعل منه أسطورة، أو صفة من صفات الكلام، ليتساءل؛ لو كانت الكاميرا والصحافة على أسوار طروادة، هل كان هومير سيكتب غير ألاوديسّة.

لا يُدرِك موت المكان كمعطى زمنيّ صرف إلّا من اقتلع منه، إلّا من انكسر فيه أو معه، إلّا من تشظى وصار ممتزجًا مع التراب والهواء، انكسرا سويًّا في زمن خرافيّ أو زمن مجنون أو حشيّ كمخلب في الظهر. ولا يدرك ذلك الذين يغيبون طوعًا أو لفترة قصيرة، ربّما بعض هؤلاء يكون مبغضًا له، أو غير شاعر به. لا مجال للعودة لمكان بعينه، علينا أن نستوعب -كسوريّين وفلسطيّنيين- هذه الحقيقة المرّة، وهي حقيقة لا تتوقّف علينا.

غيمةٌ هو المكان، عصيّة على الوصف، تغيّرها الرياح، و"تحلجها كمحلجة القطن"، لا تاريخ لها، لأنّ "لا تاريخ لللاشكل"، ولأنّ ال"لامكان مكيدة"، لكنّ السحابة كما يقول الشاعر تتدّلى من فضاء اللازورد خفيفة ترشح أخيلة وسربًا من الكائنات، كأفكار بيضاء مطلقة، ل"ترسمنا على وتيرتها"، فلا تكتمل ولا نكتمل، حيث "لا يكتمل شئٌ ولا أحد"، ولا يكتمل مكان على صورة المشتهى.

***
إنْ عدْت للمكان عينه كما تدفق في أعصابي في أزمنة متوافقة، نعدّها شهية، لن أغيّر سيرتي، إلّا أنّي سأطيل التحديق في جريان النهر، في صفات الظلال، في منعرجات الشوارع، في انحناء الحيطان، في بناية آلت للانقضاض، في شوك البوادي وشيحها، في امتدادات الحقول على تلال المراصد، وظلال البساتين تفتح شهيّة الخيال، في تجمع الأحياء المزدحمة والعشوائيّة على نفسها، في قمرِ كلّ مكان على حدة، وسأحاول مرّة أخرى يائسًا القبض عليه، بكلّ ما فيه، وضمّه بالكفّ، وإلزامه ما أحبّ.

منذ انبثاقنا، انبثاق الشاعر، يغتالنا سؤال الموت والنسيان، أنْ نموت ونُنسى، أن نغيب عن المكان، أو أنْ يسقط هذا المكان في البئر.

أفهم بأنّا لا نقذف في الكون هكذا مهملين، كما يقول بعضهم، حيث ننبثق للوجود كزهرة أو فراخ قطا، يحتضننا بيتٌ هو "حصتنا من الكون"، وأمٌّ، ولغة. هؤلاء هم العناية الربانيّة التي تحيط بنا لننمو كفراشة الضوء نحو فناءنا، الشخصيّ أو الجمعيّ. وهؤلاء شروط لا ننفكّ عنها، أوساطٌ لنا. فليس الشاعر مثلًا هو من ينطق بالقصيدة، ولا من يصوغ الوزن، ولا من يختار الكلمات؛ وإنّما "يختاره الإيقاع" كما يختاره المكان، "يشرَق به"، ويدور به ويهيمان معًا، وما عليه إلّا أن يصغي لصوت احتكاك الكلمات ببعضها، وروح الأمكنة، وقلب الأمّ.

ومنذ انبثاقنا، انبثاق الشاعر، يغتالنا سؤال الموت والنسيان، أنْ نموت ونُنسى، أن نغيب عن المكان، أو أنْ يسقط هذا المكان في البئر. والشعر هو المناط به إنقاذ ما يمكن إنقاذه، والتقاط ما أفلت من قبضة الغياب. لذلك كان الموت موضوعًا ملازمًا لموضوع المكان، وكان النسيان. السروة التي انكسرت، المنذورون للموت الحافظون لخريطة الفردوس، من نسوا أنفسهم في زحام الموت وماتوا واقفين، أفعال الموت في الأمكنة وأسطرته إيّاها، حكمة الميّتين، وحكمة المحكومين بالموت، حياة الموت بشكل عادي مع المنكسرة أمكنتهم، فهو موت متكرر، أكثر من موتة واحدة للفرد الواحد، والحلم بيوم مشمس لا رغبة لأحد فيه بالانتحار، والتعب من ثقل القبر على كتف المسافر.

***
تنصهر عناصر الوجود كلّها في إيقاع قسريّ يختارنا، ينظم لنا أمكنة خصوصيّة، أمكنة ننتمي إليها، تربطنا بخطوطها علاقات حميمة وفق أزمنة ذهبيّة الحواشي، تنبثق وتتلاشى عبر متتالية ومضيّة لا تنتهي، تترسب في الوعي، حيث ينصرف الخيال اللاحق والسابق إلى هندسة الفراغ، وإضافة المعلوم للمجهول، والغواية. وأمكنة لا ننتمي إليها، إلّا قليلًا، إلّا بشكل عابر، إلّا قسرًا، ضيمًا، لا يعجب شجرة رئتنا هواؤها، لا يغرينا المنظر الطبيعيّ الخلّاب فيها بتبنيّها، ربّما تعني ناسًا آخرين "ما لك شغل بيهم" كما يقول النواب، صف أشجار محايد، ليس علامة طريقٍ إلى مكان نشتهيه، وإلى قمرٍ أوّل، وشمس خصوصيّة، يعلقّهما وعيٌّ متحيّز فوق مكاننا.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.