شعار قسم مدونات

مع الجزيرة.. ألَقُ البدايات وتحدي الحاضر

blogs - Yasser Abuhelah

للتذكير، أنا أدوُن ولا أكتب مقالة صحفية ولا ورقة علمية ولا أطروحة دكتوراه، للذاتي حضور طاغ، وللمشاعر كذلك، وهو ما حرصت على النأي عنه منذ تحضيرات الانطلاقة الجديدة للجزيرة؛ وظل خطابي مؤسسيا مبنيا على الأرقام والأفكار والأعمال. هنا أتحلل من ذلك وأخلط، على عادة التدوين، الشخصي في العام والأفكار بالمشاعر والأحلام والانطباعات بالوقائع والأرقام والأعمال.

 

لشهر نوفمبر حضور مؤثر في حياتي، فيه نقصت برحيل والدي وأنا في الثامنة من عمري، وزادت بزواجي في 1\11\1996 وهو اليوم ذاته الذي انطلقت فيه الجزيرة وأنا في السادسة والعشرين من عمري. أذكر أول تقرير عملته للجزيرة في عامها الأول، كان للبرنامج الراحل "بين السطور"، رصد التقرير الجدل الساخن في الأردن حول تجاوزات صحيفة أسبوعية راحلة أيضا، نشرت عنوانا غير أخلاقي بقصد الإثارة. قابلت يومها رئيس تحرير الصحيفة ووزير الأعلام مروان المعشر الذي كان أحد أكثر وزراء الإعلام ليبرالية، ولكنه كان تحت ضغط مواجهة تجاوزات صحافة التابليود. انتهت بعد عقدين صحافة التابليود في الأردن ولكن الجدل انتقل للمواقع الإلكترونية ثم المنصات الرقمية.

 

قيل أن الجزيرة قناة الموساد وقناة القاعدة وقناة الإخوان وغير ذلك لكن الجمهور لم يكن يعيش حال الاستقطاب والانقسام الذي يعيشه اليوم. إن مواجهة هذا التحدي تتطلب مزيدا من القبض على جمر المهنية والخط التحريري

لم تكن الجزيرة قد دخلت في صلب الجدل الإعلامي والسياسي، وكنت مضطرا للتعريف بالقناة الناشئة التي تبث من الدوحة. ولم تكن القناة قد تحولت إلى مؤسسة، يومها كان عقدي متعاون مع وكالة "أي بي" لصالح الجزيرة. لم يكن ثمة قسم للمراسلين كان عمر بيك مسؤولا تقنيا عن البث والتبادل الإخباري وفي الوقت ذاته مسؤولا عن استقبال التقارير، ورئيس التحرير سامي حداد. لم تكن القناة تنتظر العواجل والتقارير الساخنة، التقرير استغرق إنجازه أسبوعا. وكان أصعب ما فيه المونتاج اليدوي على الأشرطة، أي تلعثم في القراءة يتطلب الإعادة من الأول وأي خطأ في تركيب الصور يتطلب جهدا هائلا وكنت يومها مبتدئا هاويا في التلفزيون كثير الأخطاء.

 

كانت الصحافة المكتوبة أكثر حضورا وقوة، توقف تعاوني مع الجزيرة، وأغلق مكتب الجزيرة بسبب حلقة عن الاتجاه المعاكس في الأثناء، لأعود إليها في شهر نوفمبر 1999؛ عودة صاخبة في ظل أبعاد قادة حماس من عمان إلى الدوحة. كنت محظوظا بوجود الشهيد طارق أيوب منتجا في المكتب، وكان زميلا لي في الجوردان تايمز المطبوعة الإنجليزية من صحيفة الرأي الأردنية. اقترحت أن يكون مراسلا معي وعين لاحقا مراسلا اقتصاديا ليتحول مراسلا حربيا في فترة الحرب على العراق.

 

في الأثناء كنت قد صرت أبا بولادة ابنتي رند، وقد بدأت تتعلم الكلام مع ظهوري على الجزيرة مراسلا، وكان صعبا علينا أن نقنعها أن الجزيرة ليست من العائلة. فإن سئلت عن اسمها قالت "رند ياسر أبو هلالة الجزيرة عمان". حضور الجزيرة صار طاغيا بعد الحادي عشر من سبتمبر، ذهبت إلى معان لتغطية مظاهرة ضد الحرب على أفغانستان، وكان الاعتقال الأول، قيل لي أنت الصحفي الوحيد الذي تذهب إلى معان، قال ضابط المخابرات، قلت له أن أميركا تخوض حربا لن يوقفها تقرير من معان. تدخلت رندا حبيب وكانت رئيسة نادي المراسلين الأجانب من أجل الإفراج عني لدى رئيس الوزراء علي أبو الراغب، ورد عليها أنه لا توجد مظاهرة لكن ياسر حرَّض أقاربه في معان على المظاهرة لكي يصورها! ومن يومها لم تتغير التهم؛ تصنع الحدث الذي تغطيه!

    

أفرج عني بعد 24 ساعة لكن بقوة تأثير الجزيرة صرت أنافس مانديلا بسنوات سجنه. الغريب أن أول المتصلين بعد الإفراج عني كان ألبرتو فرناندز الملحق الإعلامي والثقافي في السفارة الأميركية في عمان الذي تخوض بلاده حرب أفغانستان! عدت للعمل ليغلق المكتب مجددا بعد حلقة أخرى للاتجاه المعاكس. لكن بقينا أنا وطارق رحمه الله نعمل بعيدا عن الشاشة. ذهبت وغطيت العراق قبل الحرب لكن أزعج السلطات في وقتها وجودي ولم يجدد تصريح عملي. عدت إلى الأردن لأنجز في فترة الإغلاق الفيلم الوثائقي "أول الأفغان العرب من عبد الله عزام إلى أسامة بن لادن".

 

اعتقلت للمرة الثانية في أحداث معان، لم أعد تقاريرا لكن كنت أزود القناة بأسماء الضيوف والأخبار. اقتحمت شعبة مكافحة الإرهاب البيت، لكنهم احترموا غرفة طفلتي النائمتين رند وآية ولم يفتشوها، من كرم المصادفات أن أشرطة "أول الأفغان العرب" التي تضم تسجيلات نادرة للحرب الأفغانية ولعبد الله عزام وأسامة بن لادن كانت في الغرفة المصانة. وجهت لي تهمة الحض على القيام بأعمال إرهابية، وسأل رئيس الشعبة السؤال ذاته "ما في غيرك صحفي ما في غير الجزيرة؟" خرجت بعد 24 ساعة مع أن التهمة لو ثبتت تصل عقوبتها إلى 3 أعوام.

 

اليوم يوجد غيري ويوجد غير الجزيرة، انتهى احتكار الجزيرة ليس بفضل وجود قنوات أخرى تتحلى بالجرأة الصحفية بل بفضل الثورة التقنية التي مكنت كل الأفراد القادرين على استخدام منصات التواصل الاجتماعي من بث الخبر. لكن بقي للجزيرة دورها بعد كل هذه الثورة، تماما كدور القنوات المهنية للأسباب الآتية وهذا ليس مجرد رأيي الشخصي بقدر ما هو خلاصات لكثير من الدراسات التي جرت على مستوى العالم.

 

1- المصداقية: فنشر فرد لخبر، حتى لو كان ناشطا ولديه عدد كبير من المتابعين لا يعطي الخبر صدقيته كما لو نشر في مؤسسة إعلامية. وقد تبين ذلك في وضوح مؤخرا بعد الانتخابات الأميركية وبدا أن منصات التواصل استخدمت في التضليل والتشويه، واضطر مارك زوكر بيرغ للحديث مباشرة عن ذلك والعمل على وضع آليات تحد منه.

 

تشكل المنصات الرقمية في الواقع موردا أساسيا للقنوات، ودورها هو التثبت من المعلومة والتعمق فيها ووضعها في سياقها، تماما كما حصل في الربيع العربي من تونس إلى سورية. فلم تنشر الجزيرة خبرا كاذبا أو مضللا على الرغم من استفادتها القصوى من هذا الموارد الثرية.

 

2- الحضور والانتشار والتأثير: صاحب الحساب قد يبقى محصورا في قرية أو حي، لكن نشر الخبر في الجزيرة يعطيه أفقا عالميا.

 

3- الاحتراف والجمالية: صياغة الخبر أو صناعة التقرير التلفزيوني تتطلب تأهيلا مهنيا وموهبة لا تتوافر لدى الأفراد عموما. فامتلاك اللغة البصرية يجعل التقارير أكثر جاذبية. وهي لغة عالية ترقى إلى السينما وتتواضع إلى صحافة الموبايل، لكنها جميعا تخاطب العين بالدرجة الأولى.

 

فوق ذلك، رفعت الجزيرة سوية الصناعة الإعلامية في العالم العربي، وتأسست قنوات محلية تتأسى خطوات الجزيرة في البرامج والأخبار، ولا تستطيع الجزيرة منافستها في مساحة الخبر المحلي.

 

لم تكن ثورة الإنترنت، أو ما عرف بالثورة الصناعية الرابعة قد عمَّت العالم، كان الإنترنت مقعدا محصورا في المكاتب، ضيقا بالكاد يتسع للنصوص، ولم يكن قد تجول في هواتف ذكية، لذا لم تواجه الجزيرة في لحظة التأسيس هذين التحديين: منصات التواصل والقنوات المحلية الإخبارية. كان المعارضون أيامها يستخدمون الفاكس والإي ميل لنشر أخبارهم ومواقعهم. وعلى صعوبة التحديين إلا أنهما تحولا إلى فرصتين في العامين الماضيين ولم تحتفظ بمشاهديها من خلالهما بل تمكنت من مضاعفتهم والوصول إلى أجيال وفئات جديدة لم تكن تشاهد الجزيرة. ينتشر محتوى الجزيرة الإخباري في أوسع مجتمع تفاعلي في العالم العربي.

 

وبعيدا عن الادعاء أعني ذلك جيدا. وبدون الدخول في لعبة الأرقام بإمكان أي متابع أن يشاهد حجم التفاعل في الوصول والمشاهدة والتعليق والمشاركة على المنصات كافة. لكن بكل ثقة أقول أن مجموع المتابعين على حساباتنا المتنوعة مئة مليون، والرقم هذا "خام" يحتاج تحليلا نتركه للباحثين، فثمة من يتابع الجزيرة على منصة واحدة وآخر على منصتين، وداخل المنصة ثمة من يتابع الصفحة الرئيسية أو يجمعها من الحسابات الفرعية المتخصصة سواء المحليات أم المواضيع والبرامج أم حسابات المذيعين والمراسلين. ببساطة ثمة من يتابع صفحة مذيع حصرا أو صفحة موريتانيا ولا يتابع الصفحة الرئيسية أو العكس.

 

الجزيرة أول قناة إخبارية في العالم تستخدم البث المباشر على الفيس بوك، وأول قناة عالمية تؤسس صفحات محلية تشكل منافسا جديا للإعلام المحلي في الخبر المحلي، وعلى سبيل المثال في يوم 11\11\2016 كانت صفحة الجزيرة -مصر بحسب محرك البحث جوجل مصدر البحث الأول في الإعلام المصري. وأول قناة على التلجرام..

 

ما تحقق لا أدعيه لنفسي، فدعم رئيس مجلس الإدارة الشيخ حمد بن ثامر للتوسع الرقمي في القناة بلا حدود، من تأسيس الفريق في 2014 إلى إطلاق أول نشرة تفاعلية في العالم العربي. وتمكن الفريق من تحقيق إنجازات وقفزات خلال فترة وجيزة، ولا يزال يدخر مفاجآت ومبادرات.

 

هنا يحضر مشروع المدونات الذي تمكن من إعادة الألق للتدوين عربيا. عندما أسس سميح طوقان مشروع التدوين في مكتوب، اختارني أول مدون للموقع، وكانت تجربة ثرية ورائعة لكنها وئدت بسبب بيع مكتوب لشركة ياهو وانتشار منصات التواصل الاجتماعي.  وإذ أتأسف على تلك المدونة التي وئدت بغير ذنب، أفرح أننا استطعنا استقطاب عشرة آلاف مدون عربي يشكلون فضاءً فكريا شابا.

 

التحدي الثالث الذي نتعامل معه حتى اليوم هو "تشويه السمعة"، فرأس مال أي مؤسسة أو فرد هو سمعتها. والجزيرة قد تكون وسيلة الإعلام الوحيدة في العالم التي تسخر أجهزة وجيوش إلكترونية لتشويه سمعتها. وبعد نجاح الثورة المضادة سخرت حملات استثمرت في الاستقطاب السياسي الذي ركب على انقسام سياسي لتشويه سمعة الجزيرة ووصمها بالفتنة والانحياز.

 

تواجه الجزيرة هذه الحملات منذ تأسيسها لكنها لم تجد بيئة حاضنة كما في السنوات الخمس الماضية. قيل أن الجزيرة قناة الموساد وقناة القاعدة وقناة الإخوان وغير ذلك لكن الجمهور لم يكن يعيش حال الاستقطاب والانقسام الذي يعيشه اليوم. إن مواجهة هذا التحدي تتطلب مزيدا من القبض على جمر المهنية والخط التحريري، بقدر ما تتطلب توسيعا لآفاق العمل والبحث عن العوامل المشتركة العابرة للاستقطاب. لا حدود لتشويه السمعة، آخر ما حرر افتراءات قناة الحوار التونسية من خلال تركيب صور فوتوشوب، واتهام أحمد موسى للجزيرة بالعمل مع الإرهابيين في سيناء بعد بث فيديو حصري. الحملة لن تتوقف وخلفها جيوش إلكترونية وميزانيات وإمكانات ضخمة.

 

إدارة السمعة تتطلب جهودا كبيرة من الجزيرة ومن جمهورها، فعلى القناة من المدير إلى المراسل في آخر الدنيا التفاعل مع الجمهور وتوضيح الحقائق له، والاعتذار عن الخطأ إن حصل. وقد حرصت قدر الإمكان وبحسب الأولويات على التفاعل مع الجمهور تحضيرا وترويجا للقناة، وتوضيحا لما أشكل، وتصحيحا واعتذارا عن أي خطأ.

 

يحضر هنا محمود حسين وهو في زنزانته الموحشة، وأنا موقن أنه سيخرج مرفوع الرأس من زنزانته كما دخل. وسيكتب في مدونات الجزيرة عن التجربة المرة

أن نجاح أي مؤسسة صحفية أو غيرها يكمن في قدرتها على الموازنة بين القيادة والانقياد، بين ما تريده القناة وبين ما يطلبه الجمهور. هذا الأسبوع احتفل العالم بمرور عقد على "الآي فون" وهو يلخص عبقرية ستيف جوبر في تلك الموازنة وبقدر ما لبَى طلبات الجمهور قاده وفق رؤية آبل ماكنتوش. موازنة كهذه تتطلب أن يكون لدى المؤسسة رؤية إبداعية استشرافية سباقة وإحساس دقيق بجمهورها، أن ترى بعينة لا بعينها فقط.

 

بعيدا عن حملات تشويه السمعة، ثمة جمهور حريص على السمعة. وهو رقيب عتيد على كل دقيقة تبث. ومن حقه على القناة أن يبدي رأيه ويوجه انتقاداته، لذا بدأنا بالاستطلاعات الإلكترونية لتقييم ساعات البث، وفي أول استطلاع شارك نحو عشرين ألفا فيه، وسنقوم بعرض نتائجه قريبا، وإضافة إلى ذلك نستمع لمجموعات التركيز من الخبراء، ونرصد ما ينشر. وبالمناسبة فإن حملات التشويه لا تخلو من انتقادات مفيدة.

      

بعد عقدين أجد نفسي في الدوحة، بعد أن تنقلت في عواصم العالم وميادين التغطية ساحات قتال أو تظاهر أو احتفال، وأتذكر الراحلين طارق أيوب.. ماهر عبد الله.. محمد الحوراني.. حسين عباس.. أتذكر من رحلوا في غيابة الاعتقال وعادوا إلى الحياة، يحضر هنا محمود حسين وهو في زنزانته الموحشة، وأنا موقن أنه سيخرج مرفوع الرأس من زنزانته كما دخل. وسيكتب في مدونات الجزيرة عن التجربة المرة. وهي على مرارتها عززت صدقية الجزيرة وحضورها، فإن كانت القناة قد انتهت وأفل نجمها لماذا تلاحقونها ولا تتوقفون عن مهاجمتها؟ 

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.