شعار قسم مدونات

لم تكن غربتي قاسية

blog- الغربة

انتهت إجازة نهاية العام وسمعت ولا تزال عن المسافرين العائدين إلى غربتهم القاسية، بعيدًا عن رائحة الخبر، وعبق تراب الوطن، وضحكات الأصدقاء، وحنان الأم ودفء العائلة، وعن الشوق الذي سيلفهم والجروح التي ستترك ندوبها فيهم بسبب هذا البعد، وفي الحقيقة الأم وحدها من تحملها في قلبك وتحملك، البقية تنشغل عنهم وينشغلون عندك في دنياهم الخاصّة، أما حالات الاشتياق اللاذعة الأخرى فلا أنصح أن تعير لها أذنًا.

اغتربت مع عائلتي ما يقارب عشرين سنة، انتقلت فيها إلى ثلاث أماكن مختلفة، منها ما هو مقرّب إليّ أكثر من الآخر، وكان الوطن يسكنني معها، لكنّها كانت أعوامًا جميلة جدًا، فيها من الجمال والقسوة ما فيها، أظل أذكرها بشوق وحنين وشغف، ربما لأنني كنت صغيرة عندما بدأت غربتي، وربما لأنني قاسيت غربة أخرى حين عدت أستقر في الوطن.

التجربة الجديدة تكسبنا أفقًا جديدًا، وجديدًا يعني أن أفقنا الذاتي أصبح أوسع بمقدار اتّساع الأفق الجديد، مهما كانت التجربة ناجحة أو فاشلة.

نعم، في الغربة يموت أفراد من العائلة ويولد آخرون، ويكبر الأطفال وهم لا يعرفون تفاصيل عائلاتهم، وربما لا يملكون أن يميّزوا ملامحهم، وهكذا تقطع هذه الغربة الموحشة أواصر اتّصالهم بعائلاتهم، وتتركهم وحيدين، وفي الحقيقة طوال المدّة التي قضيتها في الغربة والأقارب الذين لم أكن أعرفهم جيّدًا وقتها هم ذات الأقارب الذين لا أعرفهم جيّدًا الآن، هم وجدوا في الحقيقة ليكونوا أقاربي الذين لا أعرفهم جيّدًا.

في السنوات العشر الأولى من غربتي مع عائلتي كانت لدينا مجموعة من الأصدقاء، عائلة كبيرة مكوّنة من 20-25 عائلة صغيرة منتشرون في أنحاء المدينة، كان لدينا بعض الطّقوس الجماعية المحبّبة، رحلات أسبوعية إلى الحديقة أو البر أو البحر، نجتمع في العيد في أحد البيوت بعد الصّلاة، ثم ننتقل بهذه المجموعة إلى كل البيوت الأخرى، البعض يترك المجموعة والبعض الآخر ينضم إليها وهكذا يمتلئ العيد بالفرح.

كنّا نعرف بعضنا تماما، هناك تقسيمات تفرض نفسها في الزّيارات والمناسبات الرجال معا، الشباب معا، الصبايا، البنات في المدرسة، الأطفال، الأمهات، جماعات صغيرة ضمن الدائرة الكبيرة، حتّى في السّفر كنّا نسافر في جماعة، لم نكن وحدنا أبدًا، ولم نشعر أنّنا منعزلون، ولم نشعر بقسوة الوجود على أرض ليست الوطن، كانت الروح الجماعية الأخوية الإنسانيّة توحّدنا وتجعلنا كينونة واحدة ومتناغمة، كالعائلة تماما إلا أننا لم نكن نمتلك ذات الألقاب.

أظنّ حتى الآن أن ذهابي لزيارة صديقة لي في مناسبة خاصة بها بكامل الصّدق والإخلاص، أفضل مئات المرات من النّفاق الاجتماعي العائلي الذي قد نمارسه قسرًا في بعض الأحيان لأشخاص بالكاد نعرفهم أو يعرفوننا، ولا تجمع بيننا أي روابط اهتمام على أي مستوى، فقط للروابط العائلية في الأسماء، أو لتضمن الأسرة أن يعيرها أطراف العائلة بعض الاهتمام في مناسباتها الخاصّة.

في الغربة أنت مضّطر أن تقدّم نفسك بنفسك، أخلاقك وصفاتك الشّخصيّة تحدد موقعك الاجتماعي بين الناس، لا والدك ولا جدّك ولا تشفع لك العائلة ولا الإنتماء، وتحمل على عاتقك أن تؤدي تمثيلك لموطنك على أفضل صورة، لذلك فإنّك تتحلّى بالفضيلة اختيارًا أو إجبارًا إنّك تفعل على أيّه حال، وتلزم فضولك أن يبقى في حدود دائرتك الشّخصيّة، فالكل هنا غرباء ولا سلطة لك على أحد، أما في الوطن فالجميع يعرف الصورة، ثم ينعكس هذا كلّه على شخصياتنا وسلوكنا العام.

نحن المغتربون قديمًا أو حديثًا نعرف بعضنا !
هناك تآلف غريب بين المغتربين حتى دون أن يعرفوا أنّهم قد مارسوا الغربة من قبل، من الطرائف المدهشة التي تذهلني أن يسأل أحدهم عن جامعتي مثلا، فأجيب بأنني درست في الخارج، فيكون الرّد بابتسامة عريضة: "أه عشان هيك" أنا أيضًا قضيت عشر سنوات في المكان الفلاني أو الدّولة الفلانيّة. بالضّبط، أنت لا تستطيع أن تعرف ما هو الـ"هيك" وما هو الفرق الذي تم اكتشافه؟ وما هو الرابط العجيب الذين يجعلنا نميل لبعضنا ونجتمع؟.

لكنّي أظنّها التجربة، التجربة الجديدة تكسبنا أفقًا جديدًا، وجديدًا يعني أن أفقنا الذاتي أصبح أوسع بمقدار اتّساع الأفق الجديد، مهما كانت التجربة ناجحة أو فاشلة، جيّدة أو سيّئة، سعيدة أو حزينة، هي في النّهاية تجربة ولا بدّ أن تترك في داخلك أثرًا ما، أظنّ أن هذا هو السّر وهو الهدف الذي تحتاج أن تعلل اغترابك به، كيف تعود بأفضل تجربة تفيدك شخصيًّا وأسريًا ثم تحاول أن تفيد فيها الوطن.

أريد أن أتعلّم وأجرّب وألاحظ كل جديد بوعي مختلف، وأن أعود إلى الوطن سريعًا لأكمل الخطة التي وضعتها.

هذا لا يعني أيضًا أن تلك البلاد تعطينا التجارب وبلادنا خاوية تصفّر، مستوية بلا معالم، بل على العكس لدى هذه البلاد ما يستحق الزيارة وفيها من التّجارب ما يصقل وينمّي يجعلك إنسانًا صالحًا قادرًا على الحياة متحمّلا مسؤوليتك تجاه العائلة والأصدقاء والوطن الكبير، وأظنّ إخوتنا من الدّول المجاورة حين يأتون لأوطاننا يكسبون ذات التجارب التي تكسبها أنت حين تزور أوطانهم.

الغربة تأكل أعمارنا، والوطن يفعل أيضًا، والعمل، والروتين، والفقر، والتكنولوجيا وكل شيء، كلها تأكل أعمارنا بلا استثناء، في الوطن أيضًا بعض القسوة وشظف في العيش وقهر على مستوى أو آخر.

الحديث عن الغربة بكل البشاعة يحمِّل المغتربين همًّا فوق همّهم، ويوهم من يقدمون عليها أو يفكّرون في ذلك بجحيم يترقبهم، البعض يغترب حين تشدّ عليه الحياة خناقها فلا يستطيع أن يتنفّس، أو يجد لنفسه فرصة مميّزة للدّراسة، أو عملاً يكسبه مكانًا ويوفّر له مستقبلاً أفضل، الغربة قد تكون المفتاح لحياة مدهشة وتجربة فريدة وليست دائمًا جحيمًا يفتح بابه على روادها.

نعم اغترب، زر مكانًا جديدًا وتعلّم قضيّة جديدة، ليس مهمًّا أن تسافر لتحسين وضعك المّادي أو العلمي أو الاجتماعي، لكن ابحث عن فرصة حقيقيّة ومناسبة، وضع لنفسك خطّة زمنيّة، ولا تدّعي أن الغربة أكلت عمرك، عد مبكّرًا، ولا تنتظر اللقمة الأخيرة، فالعمر سيؤكل على أيّه حال.

وأنا شخصيًّا في خطتي أن أنتهي من دراستي وأبحث عن غربة جديدة أعيشها بكامل طاقاتي ومهاراتي التي اكتسبتها من غربة ماضية ومواطنة حاضرة، أريد أن أتعلّم وأجرّب وألاحظ كل جديد بوعي مختلف، وأن أعود إلى الوطن سريعًا لأكمل الخطة التي وضعتها.

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.