شعار قسم مدونات

رياض الورد

blogs - sultan Ahmed mosque
يا نديمي قم تنبّه واسقني واسقِ الندامى
اسقياني وهدير الرعد قد أبكى الغماما
وشفا الأزهار تفترّ من الضحك ابتساما
قل لمن عيّر أهل الحبّ بالجهل ولاما
لا عرفت الحبّ هيهات ولا ذقـت الغرامـا

* * *
 

لوحتان بخط التعليق الفارسي، تلفتان الانتباه في جامع السلطان أحمد، حتى لا تخلو زيارة زائر للمسجد من تصويرهما، ومشاركتهما، الأولى "الكاسب حبيب الله" التي أشرت لقصتها في تدوينتي الثانية هنا عن جماعة "أخي ايفرين"، أما الثانية فشطر البيت المشهور "كشف الدجى بجماله" وفوقه تتمة المعنى "صلوا عليه وآله"، ثم توقيع الخطاط خلوصي تلميذ سامي وسنة كتابتها التي جاءت في عام ١٣٤٠ هجرية.
 

أما الأبيات كاملة وهي مشهورة أيضا:

بلغ العلا بكماله … كشف الدجى بجماله
حسنت جميع خصاله … صلوا عليه وآله
 

فتعود للقرن السابع الهجري، نفس القرن الذي ولد فيه الخط الذي علقت به على أقواس المسجد، وهو القرن الذي غزا فيه المغول الشرق حتى بلغوا بغداد. أما صاحبها فهو أشهر شعراء الفارسية في تلك الفترة، وأنداهم شعرا وأبلغهم حكمة وأخلاقا، وأحبهم إليّ، وهو سعدي شيرازي.
 

لم يولد سعدي بهذا الاسم، بل باسم لا يعرفه المؤرخون، فرغم شهرته إلا أن اسمه غاب على التحقيق، فهو يتأرجح بين مشرّف الدين، أو مصلح الدين، لقّب بالشيخ، وكني بأبي عبد الله أو أبو محمد.
 

لا يبدو تحقيق الاسم في الحقيقة هام في حياة شاعر مثله، فسواء سمي الورد وردا أو غير ذلك، فعطره يفوح مخبر عنه.
 

كان ميلاد سعدي، في مدينة شيراز، وهي آنذاك في إقليم فارس، وإقليم فارس وكرمان جنوبي إيران اليوم بالغا الأهمية في تلك الفترة إذ هما تقريبا الإقليمان الوحيدان اللذان سلما من تخريب المغول.
 

كان خروج المغول، صادما للعالم الإسلامي، بل وحمل خروجهم من الشرق "مطلع الشمس" خيالات يأجوج ومأجوج الذين يخرجون آخر الزمان، ليخربوا ما عُمِّر من بلدان، ولعل هذا كان أحد أسباب رحلة سعدي الأولى من بلاده حين بلغتهم الأخبار إذ يقول:
 

ألا تدري لماذا خرجت مغتربا أطوف في البلاد؟
ولماذا أمضيت زمنا بعيدا عن الوطن والأحباب؟
نزحت بعيدا حين رأيت محن الأتراك
وحين صار العالم معقدا كشعر الزنجي.
الناس كافة من بنوة آدم، لكنهم
كالذئاب المتعطشة للدماء بمخالبها الحادة.
 

قبل أن يعود إليها وقد أمن إقليم فارس من الفساد والتخريب، حيث سارع واليه سعد بن زنكي بدفع جزية للمغول، تركت له استقلال الإقليم تحت حكمه، ما جعل سعدي يمدحه:
 

فمن يبغ أمنا بهذي الفتن … فليس له غير هذا الوطن
فطوبى لباب كبيت العتيق … حواليه من كل فج عميق
وقد فقت اسكندرا في النوب … أقمت ليأجوج سد الذهب
 

ويظهر هنا بالطبع مبالغة سعدي في المدح إذ يساوي بين السور الذي بناه ذي القرنين بالقطر المصهور ليمنع يأجوج ومأجوج، وبين الذهب الذي دفعه الأتابك سعد للمغول ليمنعوا سيوفهم عن دياره. ما جعلني أفكر في صواب فعل الأمير من خطئه، وبالتالي قبول مدح الفعل من عدمه، لاسيما وقد شهد سعدي في حياته نهاية الخلافة العباسية في بغداد، بل ورثاها في قصيدتين، إحداهما بالفارسية وهي بضع وخمسون بيتا، والأخرى بالعربية وهي من أطول ما كتب إذ تتجاوز مئتي بيت، اختار نظمها بالعربية، كون المصاب يشمل المسلمين جميعا، ولا شيء يجمعهم سوى لغة دينهم، صور فيها حال بغداد في حصارها وما آلت إليه أحوالها، ومطلعها:
 

حبَستُ بجَفنَيَ المدامِعَ لا تجري
فَلَمّا طَغى الماءُ استطالَ على السكرِ

نسيمَ صبا بغدادَ بعد خرابِها
تمَنَّيتُ لو كانت تَمُرُّ على قبري

لأنّ هلاكَ النفسِ عندَ أولى النُهى
أحَبُّ لهم من عيشِ منقَبِضِ الصدرِ
 

فكيف لمن تمنى أن يكون قد فارق الحياة قبل سقوط بغداد، فلا تمر عليه الصبا المحملة بريح الخراب وهو حي، أن يمدح من هادن المغول هادمي الخلافة.
 

تفترض الرواية المحفوظة أن إسلام المغول حولهم من قمة الهمجية والعداوة للحضارة والسعي لتخريبها، إلى قمة الحضارة والتعمير بعد ذلك

والحق أن السؤال في ذاته لا يعبر إلا عن سطحية النظر للتاريخ، خصوصا وقد فرغت قريبا من فترة كنت فيها عاكفا على سيرة مصطفى كمال "هادم الخلافة على الكلية" في الوعي الإسلامي المعاصر، خالصا إلى أن اختزال وقائع التاريخ الكبرى في أشخاص بعينهم، أو وقائع محدودة بعينها، ليس سوى تسطيح لفهم سير الحياة، يعجز المرء بعده عن استكمالها، لعجزه عن تفسيرها إلا أن يقع في سلسلة من المغالطات بهدف وزن منطقه غير الموزون أساسا، كل ذلك جعلني أسأل نفسي للمرة الأولى: هل كان المغول على ذلك السوء، والهمجية التي صورتهم بها كتب التاريخ الحديثة، أم أنها مبالغات المهزومين في تضخيم فعل الغزاة؟

زاد رغبتي في تتبع السؤال إشارة تعيد أول ذكر لإغراق كتب مكتبة بغداد في دجلة إلى ابن خلدون، أي بعد قريب من أربعة قرون، بينما خلت المصادر المعاصرة للواقعة بالعربية والفارسية من ذكر لها.
 

والسؤال الجديد لا يعني التماس العذر للمغول بالطبع ولا لسعدي الذي سمي باسم أميره سعد، بل يحاول أن يعيد رسم صورة حقيقة نوعا ما لشكل الحياة آنذاك. ولعله يفسر ما آل إليه حال المغول بعد إسلامهم، إذ تفترض الرواية المحفوظة أن إسلامهم حولهم من قمة الهمجية والعداوة للحضارة والسعي لتخريبها، إلى قمة الحضارة والتعمير بعد ذلك، فنحن في سيرتهم نهجو زمانا ونمدح زمانا ونفسر انتقالنا بين الحالين، لتغيُّرهم "الكلي" عقب إسلامهم، وهو ما يفتح موضوعا آخر لعلنا نناقشه هنا ذات مرة.
 

عيني على عداد الكلمات، ولم أبدأ بعد الحديث عن سعدي، وروضته، فأنا كما قال هو:

كم أردنا ذاك الزمان بمدح فشغلنا بذم هذا الزمان
 

فلنقف هنا، لنكمل عيدنا، ثم نعود للروض في الأسبوع المقبل إن شاء الله.

وكل عام أنتم بخير

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.