حلب، قلعتنا المحررة التي فداها بدمائهم آلاف الرجال، كلّ واحد منهم كان يخبئ في قلبه لحفيد قادم قصته مع أول هتاف من أجل قضية، ومع أول رصاصة لأجل حرية جيل قادم، وكثيرة هي قصص الأحفاد التي دفنّاها بين مجزرتين أو معركتين… أو بين حصارين.
واحدة حلب مهما تعددت الوجوه، واحدة قصة الثورة والموت، وتتبدل أسماؤها حسب دم الراوي المسفوح في الحكاية. |
واحدة حلب مهما تعددت الوجوه، جسد واحد يمدّ شرايينه في كل بيت ومدرسة أطفال ومقر عسكري ومشفى وخط رباط، واحدة قصة الثورة والموت وتتبدل أسماؤها حسب دم الراوي المسفوح في الحكاية.
في واحدة من مجموعات الجيش السوري الحر في المدينة زرت صديقاً مصاباً، قائد المجموعة "علاء" تفجرت ثلاث طلقات في قدمه، بتروا له إصبعين وفقد جزءاً من عضلة الساق وأكواباً من دم وشهرين قادمين قبل أن يمشي من جديد، لم يكن يشغله متى سيمشي في الحدائق وإنما متى سيركض في الميدان، طفلته ذات العامين لديها حالة ضحك غريب دائم مهما قلت لها أو فعلت، في يوم إصابته أرسلوا له صورتها دون أن تراه أو تعلم عنه شيئاً… كانت تبكي منذ الصباح، "حمدي" أصيب قبله بثلاث كسور وفقْد عصبين وشظايا كثيرة وشهور في الجبيرة، "وائل" تسلل إلى المدينة قبل أن يكتمل حصارها الأول ليلاً وكان جيش النظام على مسافة دقائق منه، أصيب مرتين منذ ذلك وتدمرت سيارته، "أبو الدرداء" شاب بالعشرين بقي في نقطة بمخيم حندرات وحده وأمامه جيش مقتحم يصده برشاشه الـ PKC، دمروا المبنى بصاروخ، ذهبت ساقه… وبقيت النقطة، "أحمد" شاب دون العشرين أيضاً لم يصب في الجبهات التي يمضي إليها كل يوم، ولكن إخوته الثلاثة استشهدوا معاً ببرميل واحد، وفي اليوم نفسه استشهد أصغر عنصرين في الكتيبة.
في قرابة شهر كان كل هذا الدم في مجموعة واحدة تحكي قصة مئات غيرها عبر المدينة المفخخة بالحرب والموت والإصرار، شباب عاديون كالذين يداومون في المدارس أو يعدّون أبحاثاً في الجامعة أو لديهم مكاتب هندسية وشركات، وكان درب الحياة الأنيق متاحاً أمامهم، ولكنهم اختاروا طريق الثورة على نظام الأسد المجرم ليكتشفوا أن عليهم محاربة جيوش دول وميليشيات شعوب أخرى وآلاف الغزاة الأجانب ومئات الطائرات غادرت منصاتها من كل العالم لتحلق فوق سمائهم، ولكنهم استمروا بلا مبالاة وكأن الأمر مزحة، لا ينكسر الثوار في حلب.
ولكن هل تستحق الثورة كل هذا الدم والخراب؟
كثيراً ما يعيدون إلينا هذا السؤال، وكأننا نحن من قررنا جرائم الأعداء، كان قرارنا كثوار واضحاً وبسيطاً، وهو أن نختار الثورة، أن نختار كرامتنا وحريتنا وحقنا بالعدالة، ووراءنا نصف قرن من الاستبداد والمذابح والمقابر الجماعية والسجون، وأمامنا جيل قادم، اعتقدنا –ربما سذاجةً غروراً- أننا مسؤولون عن مصيره، ولكن قبل ذلك -وأهمّ منه- اكتشفنا أننا مسؤولون عن مصائرنا. أن تكون حراً وتتنفس حريتك، هذه السعادة المقدسة لن يفهمها من لم يعرفها، قد يصفوننا بالجنون والخيارات الرعناء والمعارك المهزومة، ولكن لا يهمّ، لأن الثورة تستحق، والحرية تستحق، والكرامة تستحق، وعلم الثورة المرفوع فوقنا يستحق.
وقد يظنّ البعيدون أننا نقضي حياتنا في الحزن والكآبة، لمن نترك الثورة إذن؟، نحن خُلقنا للثورة لا للتباكي.
وفوق خرائبهم ومجازرهم وهزائمهم يخترع الثوار الغضب والضحك والسخريات، قد تكون حياتنا أقسى من صورنا الدامية الموزعة في صحف وتلفزيونات العالم، ولكننا أصدق منها… وأصلب، لا ينكسر الثوار في حلب، ويحتفلون بالعيد ويفرحون بما أتيح لهم من أدوات الفرح، وليس غريباً أن يفرح الثوار، وأن يتمنوا للجميع سعادتهم، الثورةُ عيد، وحلب المحررة عيد لثوارها، بحريتها وكرامتها وعلم ثورتها وذاكرتها الملأى بالشهداء والمعارك، ولا يحاصرها فقط مرتزقة الأسد وجيوش روسيا وإيران وميليشيات العراق ولبنان وأفغانستان، وإنما يحاصرها قبل ذلك سقوطُ العالم، حين يكون قتل نصف مليون إنسان مجرد تفصيل سياسي في مباحثات الدول ومؤتمرات شرعنة السفاحين والقتلة وحماية الحصار والتجويع بقرارات أممية. وقد يحاصرون الأرض أسابيع أو شهوراً، ولكن من سيحاصر الذاكرة؟
يجتمع الأحرار في معتقلات الظلم، جحيم الأرض وقعر العالم المزروع منذ نصف قرن في بلادنا وأعمارنا وكوابيس شعب كامل. |
ويجتمع الثوار على طريق الحرية الدامي والمحفوف بالتضحيات والآلام والشهداء، ويجتمع عليهم أعداء لم يختاروهم، ولكن الحرية مخيفة في هذا العالم.
إليهم جميعاً، وإلى شعبنا وأمتنا الكبيرة، عيدٌ مبارك من حلب.. عيدنا المحاصَر
الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.