شعار قسم مدونات

رحلة الخلود

blog القدس

تشير الساعة إلى تمام الثالثة صباحا، أيقظ زوجتي بما خبأتُ من شغفٍ طوال سنيّ عمري، أحدث نفسي: رفقًا يا قلب، مقبلان على أرض الحب والسلام، أتجه لمراجعة بعض الأمور قبل مغادرة البيت بينما تتجه هي لإعداد فنجانٍ من القهوة على نار الشوق.

أحتسي القهوة وأتابع شهقة الفرح في عيني زوجتي، متسائلا بشيء من الخبث عن سر سعادتها فتجيبني من فورها راسمةً ابتسامة يبلغ مداها المدى "وكيف لا وأنت تقدم لي أجمل هدية بعد زواج دام 30 سنة". أجبت مستدركًا دمعةً قد تُخطّ فوق وجنتيها، وكم كنت أتمنى أن أكلل حُبي لكِ بها منذ أيام الصبا، لكن ليس كل ما يتمناه المرء يدركه.

شروطٌ أُقرتْ لتكون زيارة سريعة دون أن تتجول في مدينة السماء، ثمّ عليك بكلّ بساطةٍ أن ترحل من حيث أتيت

اتجهنا لمكان التجمع يخبرنا سائق الحافلة: أنه وخلال نصف ساعة سنتجه إلى معبر (إيرز) ومنها الى مدينة النور ومهبط الأديان. أتأمل هذه العيون التي جاء بها الشوق لكن دونما عجل! نعم فجلّنا في العقد السادس من عمرنا أقل أو يزيد. منا من كحّل عينه بها ومنا من لم يرها إلا صورةً معلقةً على جدار الحُلم، لعنت في سري قانون هذا الاحتلال وسوره وكل سياسةٍ فرضت مرارة هذا الفراق علينا، تركتَ لخاطِري أن يحلق في طيفها ليسكن القلب وتهدهد الروح.

أربعة أشهر على تقديم الطلب وانتظارِ موافقة بين الشؤون المدنية في غزة والجانب الإسرائيلي، وخمسة وخمسون عامًا فما فوق، وخمسة وستون (شيقل)، شروط اجتمعت لتوصلك للقدسِ العتيقة، لكلّ ما لا تستطيع احتماله في باحاتِ المسجد الأقصى!
 

يتيح التصريح لأبناء القطاع ممن تنطبق عليهم الشروط حمل آلة زمنيةٍ لا تعمل إلا خمس ساعاتٍ لتكون المدة التي سُمح بها للخروجِ من عتباتِ غزة والانطلاق لرحلةٍ أرادها القلب رحلة الخلود! شروطٌ أُقرتْ لتكون زيارة سريعةً دون أن تتجول في مدينة السماء، ثمّ عليك بكلّ بساطةٍ أن تجرّ هواك الذي ظننتهُ سيمسحُ عن قلب المدينة حزنها وترحل من حيث أتيت! خمس ساعات لن تخبو فيهن جذوة بوحك، شجنوك، لن تبلغ أي ارتواء للشوق، للحنين، لحلم الماضي، وواقع الحاضر وأمل المستقبل.

اعتدلت في جلستي ونزعتُ نفسي من علقت به خيالاتي وقد أسررت في النفس ما أسررت، نصلُ الى بوابة (إيرز) النقطة التي تفصل غزة فيها عن مدن الضفة، لم نطل هنا فكل الأوراق سليمة، والموافقات قد تمت على أكمل تعب!

نستقلّ حافلةً أخرى تُسري بنا مباشرة لقبة المسجد الأقصى في مدة زمنيةٍ لا تتجاوز الساعتين على أقرب تقدير. تكثر الأحاديث الجانبية بين الركاب خلال الساعتين بالحديث عن القدس والذي جار عليها! عن عدد زيارتها للبعض، عن الضفة وبيت لحم، عن ذلك الشعور الذي يُحسّ ولا يوصفُ وأنت تقبل ثراها لأول مرة، لا تغيب روح الدعابة عن بعض المواقف ممن زارها سابقا، طعم الكعك والزعتر، شوارعها، روائحها المعتقة، سعة صدر أهلها، وترحيبهم لك باللهجة الغزيّة، وقدرتهم على العطاء، رغم كل المنغصات التي تلفح صدورهم هناك.

 

صلينا العصر وصعدت الحافلة بلا قلب ولا روح، تركزت العيون على قبة المسجد الذهبية وانعكس بريقها في أعيننا وكأنها ترسل لنا آيات العرفان بزيارتها

تحط رحالنا أرض المسجد بعد جولة سريعة في الطرقات المؤدية إليه، اقتربت من زوجتي تشابكت الايدي، تعجبتْ منّي إذ فعلتها بينما ملت إليها هامسًا: " القدس بترجع الواحد شباب" طلبت منها خلع نعلها للمشي في طرقات المسجد وساحته حفاة، وقارًا واحترامًا وقد لاح في أفقي قد لا يبقى بالعمر مثل ما مضى لتكتب لنا زيارة أخرى.
 

اتجهنا مباشرة إلى سبيل قاسم باشا في ساحة المسجد وهو أحد الأسبلة التسعة الموجودة به، تبادلنا سقيا الماء بكفينا بكثير من الحب والحنان، توضأنا ثم صلينا، سرنا مع المجموعة للتعرف على معالم المسجد التي أحفظها غيبًا ولكن المشاهدة الحيّة لها سحرها الفتّان، مرت ثلاث ساعات ولم يبق لنا سوى ساعتين حتى تغادرنا الأرواح، ولكني عزمتُ رغم كل شيء قد أتلقاه عزمت على البقاء في المسجد لمدة يومين أو يزيد فبحت لزوجتي ما كنت قد أسررته بالنفس قبل الخروج من غزة.

جلسنا تحت شجرة الزيتون تشاركنا الدمع وقد شدّت على يدي بيدها وقالت "ما بيهون علي أترك المسجد وأرجع ع غزة آه، ولو إني ما بحبك يا حج كان دعيت وقلت يارب نموت هنا وما نرجع، بس تنساش إحنا مسلمين الهوايا ع إيرز وراح نترك مشاكل للناس إلي معنا افتح عينك منيح، وملّي بصرك منها، واتنفس ع قد ما تقدر من هواها، يا حج هاي أحلى هدايا القدر" صلينا العصر وصعدت الحافلة بلا قلب ولا روح جلت ببصري على الجمع وكأننا خشب أسندت إليه حجارة السنين، تركزت العيون على قبة المسجد الذهبية وانعكس بريقها في أعيننا وكأنها ترسل لنا آيات العرفان بزيارتها.

وصلنا غزة وفزعُ الوداعِ بادٍ على ملامحنا، اتجهت وزوجتي للبيت كأطفال صغارٍ نحاول أن نحبس الدمع الذي ينهمر منا بلا حول ولا قوة. اقترب مني أكبر أولادي، احتضنني بحرارة بالغة، تهدج صوته قائلًا "يابا أنا بحضن القدس فيك وبشم ريحتها فيك بدي تفتح عيونك كثير لشوف انعكاس صورتها بدي أتحسس إيديك حتى أتحسس حجارها إنت عارف يابا لسة، لسة ضايلي ربع قرن وكم سنه لشوفها" واسيت شوقه الذي هوّن عليّ فراقِي سنصلي قريبًا يا بني معًا، سيئمنا السلام ويهدهد أفئدتنا الحب، فهي لنا وإنا إليها راجعون!

الآراء الواردة في هذا المقال هي آراء الكاتب ولا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لقناة الجزيرة.